لعلها المرة الأولى في تاريخ الدول التي توكل فيها حكومة لعدو داخلي صياغة اتفاق مصيري مع عدو خارجي وأعني هنا فؤاد حسين وزير خارجية العراق الذي أدار و صاغ ما سمّي بالحوار الاستراتيجي العراقي – الأميركي ، والواقع يقول أن أميركا حاورت أميركا !
كان غريباً من حيث الشكل أن يحضر جلسات هذا الحوار من خارج المنظومة الحكومية ممثلان عن الكيان الكردي كمراقبين ولكنهما في الحقيقة منتدبان من الرئاسة الكردية لتطمئن أن هذا الحوار قد انتهى بنتائج تخدم بالدرجة الأولى الأغراض الأميركية – الكردية ، والأغرب من ذلك أنه ما من جهة عراقية اعترضت على تولّي كردي قضية في غاية الحساسية تمسّ مصير العراق سياسياً و اقتصادياً و اجتماعياً ولم تطالب بممثل عنها يشارك في الجلسات حتى باتت العملية أميركية – كردية بحتة .
أما من ناحية المضمون فلم يكن ما حدث حواراً بل اتفاقية إذعان سلّم فيها الوزير الكردي مقدرات العراق الإقتصادية و مشاريع بنيته التحتية و المستقبل العلمي لأبنائه و موارده المائية وثرواته الطبيعية للقطاع الخاص الأميركي وشركاته الكبرى ؛ تتحدث وثيقة الحوار عن شراكة اقتصادية عراقية – أميركية وهو حديث يستهتر بالعقل العراقي فكيف يمكن لشراكة أن تقوم بين سمكة سردين و حوت ، وكيف لاقتصاد منهار لدولة مشرفة على الإفلاس أن يدخل في شراكة مع اقتصاد دولة عظمى ؟ إن ما تتحدث عنه وثيقة الحوار هو في حقيقته هيمنة اقتصادية أميركية على مقدرات العراق في عودة إلى زمن الإنتداب البريطاني عام 1918 ؛ ثم تتطرق الوثيقة إلى مشاريع أميركية لتحسين الخدمات العامة و تطوير موارد الطاقة و إدارة الموارد المائية وهي كلمات تجمّل جريمة خصخصة الخدمات العامة التي كانت تقدمها الدولة الوطنية بأسعار التكلفة للمواطنين وبيعها لهم بأسعار السوق الدولي بمعنى أن أسعار الماء و الكهرباء و النفط و التعليم و الضرائب و المواصلات العامة و استخدام الطرق الخارجية في العراق ستكون مساوية لمثيلاتها في نيويورك ولندن !
وفي بند التعاون العسكري ستكون أسلحة ومعدات القوات المسلحة العراقية من جيش و شرطة حكراً على المنشأ الأميركي وسيشتريها العراق بالسعر الذي تحدده شركات الصناعات العسكرية الأميركية و ستكون بمواصفات لا تعرّض للخطر التحالفات الأميركية مع دول الإقليم و بقدرات دفاعية فقط والأسوأ من ذلك أن العقيدة العسكرية العراقية ستصيغها المصالح الأميركية ؛ و طبعاً لم ينس الوزير الكردي إدراج حصة “البيشمركة ” من السلاح الأميركي و الذي ستدفع الخزينة العراقية ثمنه !
وقد أشارت الوثيقة إلى دور الجامعات الأميركية في دعم قطاع التعليم العراقي ، وهو تمويه للقبول بالسياسة الأميركية القائمة على إلغاء مجانية التعليم بكل مراحله – والذي كان منجزاً غالياً للدولة الوطنية العراقية – و من ثم إعادة تشكيل ثقافة أجيال المستقبل في العراق بما يتلاءم مع ثقافة اليمين الصهيوني البروتستانتي الأميركي و بتكاليف باهظة يعرفها كل من درس في الجامعات الأميركية ؛ وبالطبع لم تتطرق الوثيقة لكيفية دفع تكاليف هذا التعاون متعدد الوجوه مع الولايات المتحدة ، بالتأكيد ستدفعها الخزينة العراقية عبر قروض صندوق النقد الدولي و البنك الدولي وبفوائد باهظة و بضمان الثروة النفطية العراقية مما يعني رهنها لصالح الولايات المتحدة لأمد غير محدد وكأن يوم التأميم الخالد عام 1971 لم تشرق شمسه على العراق .
ثم يمنّ علينا الأميركيون بإعادتهم لوثائق عراقية قاموا هم بسرقتها ولم يستح الوزير فؤاد حسين من تقديم عبارات الشكر للص أعاد ما سرقه بعد أن استنفذ أغراضه منه ! كما تبشرنا الوثيقة الأميركية – الكردية أن القوات الأميركية باقية على أرضنا بدعوة شرعية من السلطة العراقية و ذلك من أجل قتال فصائل الإرهاب المتأسلم الذي هو في حقيقته صنيعة الولايات المتحدة و حلفائها الغربيين ومعهم اسرائيل ، والسؤال الخطير هنا ما هو الموقف من الإرهاب الآخر الذي يغتال أهل القلم و يكمم الأفواه و يفجّر محلات بيع الخمر و يفرض على الناس الإنصياع لطقوس غير إسلامية في مناسبات إسلامية وهو إرهاب تقوده أطراف في السلطة العراقية مثل فيلق بدر و عصابات مقتدى الصدر و تفرعاتهما !
استطاع العراق منذ استقلاله أن يحمي سيادته وأرضه وثرواته بقوات مسلحة مقتدرة وأن يتيح أرقى فرص التعليم لأبنائه و يدير موارده المائية والمعدنية بقدراته الذاتية و بإخلاص أبنائه ونقاء وطنيتهم ولم يقبل يوماً بانتهاك كرامته و خرق مبادئه و التجاوز على مصالحه العليا من أي طرف خارجي ، لكن من جرى تسليطهم على هذا البلد العظيم عقب 2003 لا يعرفون معنى لكل تلك القيم الوطنية والأخلاقية لأنهم ببساطة أبناء غير شرعيين للوطن العراقي .