في المرحلة المتأرجحة بين النوم واليقظة ، رأى ما جعله يثب من على أريكته الوثيرة التي كان قد غاص فيها، تاركاً لها مهمة استقطاب كلّ التعب المُخزّن في جسده، يشاهد _بحكم العادة _ماتعرضه قناة التلفاز المحلية ، كم يمقت مماحكةَ مضيفة البرنامج، وكم يضيق صدُره من سماع صوتها وهي تلوي لسانها بلحن القول مرتكبةً الكثير من الأخطاء اللفظية ، لكن الاسم الذي ذكرته مرحّبةً بصاحبته جعله يتخطّى كلّ ذلك، ويعدّل جلسته مشنّفاً أذنيه، وفاتحاً حدقتيه على اتساعهما!
– ” أعزائي المشاهدين يسرّنا أن نستقبل في هذه الحلقة طبيبة الأطفال الناجحة دينا أهلاً بك دكتورة “
– ومع انتقال الكاميرا إلى وجه الطبيبة، كان مخُّه يعتصر ذاكرتَه لاستحضار ملامحِها
قبل خمس وعشرين سنة، يومها كانت في الخامسة من عمرها، ومع استقرار الكاميرا على وجهها قطع الشكَّ باليقين، هي… إنّها هي …!
في ذلك العالم الأبيض قد يوغل الكبار بحسن ظنّهم بمشاعر الأطفال ، ولا يأخذونها على محمل الممكن، في الوقت الذي قد يعاني فيه الصغار من شيء يشبه الوَلَهَ أو العشقَ عند الكبار !
تلك حقيقةٌ غير مُعترفٍ بها للأسف…!
“دينا كانت حبي الأول بكل مقاييس الحب، وكلُّ علاقة حبّ تالية مررتُ بها كنتُ أقيسها على ذلك الحب، النتيجة المذهلة أنّني لم أحب فتاة بمقدار حبي لدينا !
كنا في ربيعنا الخامس ، طفلةٌ جميلةٌ تذوب رقّةً وعذوبة، تجلس على مقعد يوازي مقعدي ، في مدرسة تحضيرية خاصة ، ولأنّها كانت تُدار من قِبَل راهباتٍ متشدّدات ، كانت معظم العوائل الراقية في مدينتنا من كِلا الديانتين الإسلامية قبل المسيحية يسجّلون أطفالهم فيها ، ظنّاً منهم أن نظام الراهبات المتشدّد ممتاز يتربّى فيه الأطفالُ على النّظام والأدب والتهذيب والرقي ، كنت مسلماً وكانت مسيحية ،لم ندرك الفرق بين اللفظين أبداً،
ولأن مقعدي بمحازاة مقعدها ، كان رأسي متّجهاً إليها بوضع جانبي جلب لي الكثير من التنبيهات من قِبَل المعلّمة ، وأحلى اللحظات كانت عندما تقرّر الآنسة معاقبتي بالوقوف على السبورة، في هذه اللحظة كنت أنعم بالنّظر إلى دينا مباشرة دون أن تؤلمني رقبتي، وعندما تنتبه الآنسة إلى ذلك تطلب مني أن أنظر إلى السبورة، وظهري باتجاه دينا…
كانت دينا تردّ على نظرات الوَلَه تلك بابتسامة خجلى ، تجعلني أذوب كالثلج في يوم حار.
“لماذا لا يدعوني أجلس بجوارها ؟”
أخبرني ابن الجيران أنّه في المدرسة الحكومية التي يرتادُها، يجلس إلى جوار فتاة …
” ليتنا- أنا وهي -كنّا في نفس مدرسة ابن جيراننا…ليتنا “.
عندما كنا نخرج استراحة بين الحصص ، أسعى إليها لأسرق منها لحن كلمة تنطقها بغنج ،
أدسّ في يدها قطعة شوكولا أو علكة أو سكاكر ، فقط لألمس يدها وأتلذّذ بنعومة ملمسها، لكنّ السعادة لا تدوم أكثر من لحظات ، تباغتنا بعدها الراهبة المسؤولة عن الانضباط في الفسحة،مباعدةً بيننا ، ناهرةً إيّانا، مشيرةً إلى شرق وغرب ، قسم بنات وقسم ذكور …
في إحدى المرّات ، دسّت هي في يدي دبدوباً صغيراً أخبرتني أنّها اشترته خصّيصاً لي يمكنني أن أعلّق في حلقته المعدنية مفتاحاً.
اقتربت نهاية السنة الدراسية .. وكان قرار المدرسة إقامة حفل تخرّج لنا ، من الروضة إلى المرحلة الابتدائية، المرحلة الابتدائية تعني مدرسة حكومية مختلطة،
قد أكون محظوظاً جداً …
ربّما تجلس دينا إلى جواري بنفس المقعد … ربّما…
المهم كلّنا بتنا نترقّب هذه الحفلة ، كان عليّ أن أشارك في فقرة راقصة ،
رقصة هادئة (slow) ، بنظام الثنائيات ( طفل وطفلة )
وكانت دينا من نصيبي
سأرقص معها رقصة حميميّة، أمسك يدهابيدي، وأحيط خصرها الليّن بيدي الأخرى ، وهي ستضع يدها على كتفي، وفي فقرة أخرى سأمسك خصرها بكلتا يديّ ، وهي ستطوّق عنقي، وقد أهمس في أذنها بكلام جميل ، وستضحك خجلاً ..
لكنّ التدريبات كانت منفصلة ، البنات مع البنات، والصّبيان مع الصّبيان ، فقط يوم الحفلة سيرقص كلّ صبيّ مع فتاته …
أذكر أنّ الليلة التي سبقت الحفلة لم أنَم فيها إلّا قليلاً..
كنت متحمّساً حدّ الإثارة
” وماذا لو أخطأت ودعست على قدمها الصغيرة ؟
ماذا لو نسيت خطوات الرقصة ؟ ماذا لو لم أحقق الانسجام بين خطواتي وبين الموسيقا ؟
ماذا وماذا وماذا ؟”
“لا يهم .. المهم أنني سأرقص معها …
وربّما غفوتُ وأنا أهمس في أذنها ..
جاء الصّباح محمّلاً بآماله …كان الطريق إلى المدرسة قد طال كثيراً، أو كأنَّ الباص يجاكر حلمَه، فيعيث فيه إفساداً واستهتاراً ..
وعند باب المدرسة سبقتْه عيناه ، تنقّبان بحثاً عنها،
ولم تقعا عليها ، بدأ هاجس القلق بالتّسلل إلى قلبه ، وقف بطابور الصف ، أينَها ؟
ربّما تأخرت بإعداد فستانها ؟
كان ينظر إلى بذلة ( السموكن ) التي يرتديها .. كل أترابه أتوا بلباس المدرسة العادي، بذلاتهم أحضروها في شنط ، إلّا هو أبى إلّا أن يرتديها.
وفي غرفة الصّف، تسمّرت عيناه على الباب ، قلبه الصغير يدعو أن تأتيه بسرعة ، لكنها لم تأتِ….!
بدأت التحضيرات للحفلة ، ارتدى كلّ الأطفال ملابسهم ، وبدؤوا بتدريبات بسيطة ، ولأوّل مرة كانت التدريبات كما ستكون وقت الحفلة ، طفل وطفلة !
“أين هي يا إلهي ؟ ، ربما ستأتي مع أهلها وقت الحفلة ، وارد جداً”.
أحسَّ أنّها بتأخرّها الغبي هذا قد فوّتت عليه فرصةً استثنائية للالتقاء بيدها.
” لا يهم ، قد أزف الوقت وسأرقص معها “.
أخذوهم جميعاً إلى مسرح المدرسة ، دخل إلى الكواليس، قتل القلقُ فرحَ قلبه ، جاءت فقرته
دخل جميع الأطفال واعتلَوا خشبة المسرح ، وهي لم تأتِ ..!
تمّ إقصاؤه عن الفقرة لعدم توفّر الشريك ..
أظلمَ النهار في عينيه ، وغشيته الدموع …
لماذا ؟ ظلّ هذا السؤال يتراقص أمام مخيّلته طوال السنين التي تلت تلك الحفلة … لم يرَها أبداً ! حتى في المدرسة الابتدائية ، وكأنها ما كانت يوماً.. ولم تكن ….
في غرفة انتظاربعيادة أطفال أنيقة جلس ينتظر ، طلب من الممرضة أن تجعله آخر مريض ، وعندما استغربت الممرضة طلبه وسألته أين الطفل المريض ، أجابها أنّه يريد الدكتورة باستشارة طويلة تخص ابنه .
وكان .. دخل بدوره ، لم تنظر إليه بحكم العادة ، طلبت منه أن يجلس قبالتها، بينما أمسكت قلماً استعداداً لما ستكتبه من ملاحظات أثناء سماعها للسيرة المرضية ..
تناول من جيبه شيئاً وضعه فوق أوراقها ، نظرت إلى ذلك الشيء، وجمدت عيناها عليه ،
رفعت بصرها إلى وجهه ، نقّلت نظراتها بينه وبين الدبدوب القابع على أوراقها ! صاحت : ” أنت ؟ محمد ؟”
هزّ رأسه إيجاباً ، وبحسرة كلّ البشر سألها: ” لم فعلتِ بي ذلك ؟ لماذا حرمتني من حلم عشته صغيراً ولم يبارحني كلّ تلك السنين ؟ أين اختفيتِ؟”
سألته بدهشة : ” وكيف وجدتني ؟ كيف عرفتَ طريقي ؟”.
-“تلك المقابلة التلفزيونية ،التي عرفت منها عنوان العيادة ، والباقي ترتيبات عادية، لماذا اختفيتِ؟”.
أخبرته أَنَّهُ في الليلة التي سبقت الحفلة قضى والدُها في حادث سير، حين كان قادماً من مسقط رأسه ، فما كان من أمّها إلا أن أخذتها مع أخوتها في الليلة ذاتها، واستقرّت بهم في بلدتها ، ولم تعد إلى مدينته أبداً.
” مؤكَّد نسيتِني “
مدّت يدها إلى جهاز تسجيل ، كبست على زر التشغيل …انسابت منه موسيقى هادئة لرقصة لم يرقصاها معاً قبلاً…