23 ديسمبر، 2024 3:12 م

دخل الشاعران فوزي كريم وخزعل الماجدي مقهى السنترال في ذلك النهار الذي صادف آخر يوم من أيام عام 1997 ، لم نكن نتوقع لقائهما ، ذلك أن فوزي كريم يقيم في لندن وقد جاء بزيارة لعمّان ، في حين أن خزعل الماجدي كان في العراق ، وتبين أن الماجدي يقيم في عمّان منذ اسابيع ، ويعتكف في غرفة استأجرها لانجاز أكثر من أربعة كتب عن تاريخ الحضارات العراقية القديمة والتي يختص بها منذ سنوات طويلة الى جانب الشعر ، ذلك اليوم كنا نرتب الامور لاحياء ليلة رأس السنة الميلادية ونحن نستقبل العام 1998 ، العام الذي تفاقم فيه الوضع المأساوي على أهلنا داخل العراق جراء الحصار المفروض على الشعب . أتفقنا معهم على الحضور الى غرفتنا عند المساء لنسهر سوية ، ذهبنا الى محل المشروبات وقمنا بالتسوق لِما يكفينا ، وكنا هادي ياسين علي ونصيف الناصري وحسن السعيدي وأنا ، كما قمنا بشراء أشياء كثيرة تحضيراً لتلك الليلة التي سوف يأتي غرفتنا الكثير من الاصدقاء ، ابتدأت سهرتنا منذ الساعة التاسعة ليلاً ، كان حسب الشيخ جعفر يقرأ بقاموسه الروسي للبحث عن بعض المفردات التي يحتاجها في الترجمة ، وهذا القاموس لا يفارقه على الاطلاق في سفره وترحاله وحريص عليه كل الحرص وأضافة الى قاموس الترجمة هذا  لديه ايضاً المنجد في اللغة والاعلام ، الذي حرص كل الحرص أن أشتريه فيما إذا حان وقت سفري الى دولة أوربية في الشهور القادمة . جاء فوزي كريم مع خزعل الماجدي وصديق الماجدي وهو الشاعر الاردني طاهر رياض وجلسوا في الارض ، ليس لدينا مكان للجلوس غير الارض سوى كرسي واحد من مخلفات وريحة فاضل جواد وعبود الجابري . بدأنا نحّضر أطباق المزات وكوؤس الشراب ، وبدأت الجلسة ونحن نستمع لحوار جميل دار ما بين الشاعرين حسب الشيخ جعفر وفوزي كريم وهما يلتقيان لاول مرة بعد فراق طويل دام لعقود من الزمن ، تحدثوا عن الشعر في مشهديه العربي والعراقي ثم أنتقلوا الى مأساة الحروب والحصار التي يفتعلها نظام البعث داخل العراق ، وتذكروا الكثير من اصدقائهم الذين رحلوا وكذلك الاحياء ، كان فوزي كريم بدأ يتحدث عن الوضع العراقي المزري داخل العاصمة البريطانية لندن وكيف أبتعد البعض منهم عن الحس والذوق الثقافي خاصة في الموسيقى التي يجيد كريم الحديث عنها بشكل رائع ، يقول فوزي كريم أن تحصل على تذاكر مجانية في لندن لحضور عرض موسيقي فهذا بالشيء الرائع ، لكن للأسف الشديد لا يدخل العراقيون هكذا عروض على الاطلاق ، ثمة نقص في التركيبة والذائقة داخل كيان الفرد على ما يبدو . كانت الساعة الاخير من عام 1997 ، أتذكر في تلك الجلسة من الحضور أضافة لِما ذكرت فكان محمد نصار ونصيف الناصري  وهادي ياسين علي وسعد جاسم وحسن السعيدي وأنا ، ثم جاء فاضل جواد ، وقبل جلوسه ، طرق باب الغرفة ليدخل جان دمو الذي كان قد ألتقى فوزي كريم في المقهى حتى غادر بعد دقائق قليلة وكان بأنتظاره صديقه الرسام ( م ف ) ، وماهي لحظات حتى دخل علينا الشاعر صلاح نيازي المقيم في لندن ، والذي عرفت بوجوده في عمّان قبل يوم في بيت الشاعر الكبير سعدي يوسف عندما كنا في زيارة له حسب الشيخ جعفر وأنا ، لاول مرة كنت ألتقي بهذا الشاعر والمترجم المهم فهو مزيج من المعرفة والشعر والطيبة والاخلاق العالية التي بانت على ملامحه وأنا أصافحه ، وصلاح نيازي الذي يقيم في لندن منذ سنوات طويلة تجاوزت الاربعة عقود أو الخمسة كان يصدر مجلة ثقافية رائعة أسمها ( الاغتراب الادبي ) تعنى بأدب المغتربين ، نشرنا في اعدادها التي سبقت مجيئه عمّان بعض القصائد . جلس نيازي معنا في الارض وكان سعيداً بلقاء الجميع في تلك الليلة التي لا يمكن للذاكرة نسيانها ، بدأ الشراب يأخذ مأخذه وأصبحنا في حالة انتعاش على ما يبدو ، خاصة إذا كان في تلك الجلسة العديد من الاسماء التي كنا نحلم أن نراها ، قرأنا لهم فقط وظلوا عالقين في مخيلتنا الأدبية . كان الشاعر الاردني طاهر رياض الذي يجلس معنا منتعشاً وفرحاً لوجوده في هذه الجلسة التي لم يشهد مثيلا لها في عمّان من قبل ، أعلنت دقات الساعة الثانية عشر من منتصف تلك الليلة التي أستقبلنا فيها العام الجديد بعد أن تعالت أصوات العيارات النارية والصعادات داخل العاصمة عمّان الامر الذي جعل منا أن نحتفل على طريقتنا العراقية عبر صوت رياض أحمد الذي كان يطربنا حتى نهض نصيف الناصري ليقوم بحركات راقصة دلل فيها على أنتعاشه وتحليقه بأجواء الفرح ، فالرقص كما يقول مظفر النواب في واحدة من مقابلاته الصحفية حين سأل عن معناه بأنه أعلى درجات الفرح . أبتسمت الوجوه الجالسة في تلك الليلة ، لتتحرك أيادي ورؤوس أطربت للموسيقى وصوت رياض ورقص نصيف الجميل  ، في تلك اللحظة على الرغم من عدم أتقانه للحركات بالشكل الصحيح الأمر الذي جعلني أن أقابل صديقي الناصري لنمض برقصة ثنائية جلبت أنتباه الجميع ، وفي تلك الاثناء طرق باب الغرفة ، قفزتُ من مكاني لافتح الباب وإذا بجان دمو وصديقه الرسام  ، قلت لجان ماذا تريد ؟ وأنا احدث جان الذي كان جسمه يتلوى على صوت موسيقى الغرفة ورقصِنا ، انتبهت لصديقه وهو يتخذ ركناً من ساحة الغرفة ويقدم فيه عروضا راقصة لوحده ، عدتُ لاقول الى جان بودي أن أدخلكم لتسهروا معنا لكن الغرفة مكتظة بالاصدقاء والضيوف القادمين من منافي بعيدة ، صرخ جان وبقوة الامر الذي أوقف احتفال غرفتنا وبدأت شتائمه تنطلق الواحدة بعد الاخرى ومن خلفه صديقه الرسام الذي أوغل بشتمنا هو الآخر ولكن من خلف ظهر جان ، فقد كان يحتمي به ! ولحبي لجان سمحت له وصاحبه بالدخول على الرغم من أعتراض حسب الشيخ جعفر المستمرعلى وجوده ، قلت لجان نصف ساعة ثم أسألك الرحيل كما تقول نجاة الصغيرة في اغنيتها الجميلة . أدخلتهم وكانت علامات السكر واضحة على صديقه أكثر منه ، قدمت لهم الشراب ، وما هي  إلا لحظات حتى دق الباب مرة أخرى ، فتحنا الباب ، وكان الفنان علي منشد قد جائنا كضيف ، رحبت به فهو من الطيبين الذين عانوا في سنوات منفانا الأولى وكان رائعاً بحق ، لكنه حين يُكثر من الشرب تنعكس حالته الايجابية الى سلبية على المقابل ، خاصة الذي لا يعرفه في الجلسة ، فيقوم بالنظر له بعد أن يوقف عيناه السوداويتن وكأنها سهام منطلقة من حصان جامح . كان علي منشد ساكناً هادئاً كهدوء البحر وأنا اضع امامه كاساً فارغة وأسكب من قنينة العرق ما يكفيه ، وكلما أتوقف يقول استمر ، نصف الكأس أمتلئت بالعرق ثم كاسرها بقليل من الماء ، هكذا هو علي منشد حين يشرب الخمرة فعادة ما يشربها ثقيلة في محاولة منه للسباق بالخمرة التي داخل رؤوس الجالسين من قبله ، فهو  يحاول اللحاق بهم وكأنه في سباق للخيل ! خيم الهدوء على الجلسة بعد وصول الفنان منشد لندخل في حديث عن الشعر من جديد وعاد الباب ليدق مرة أخرى ، ها هو علي السوداني الجميل بكامل لحيته الطويلة التي اصبحت واحدة من العلامات الفارقة داخل العاصمة عمّان ، وهذه اللحية السودانية التي كانت تشكل عبئاً كبيراً على البياتي في أغلب جلساتنا جعلت من البياتي ذات يوم وهو يجلس في بار الياسمين من الاتفاق مع النادل بحلاقتها بعد سكرة قوية جعلت من علي السوداني أن لا يعّرف بالامر إلا في اليوم الثاني ، حتى أنها اصبحت تاريخ بحد ذاته ، فحين نتحدث مع البياتي عن مسألة ما ، يقول ابا علي رحمه الله ، قبل أم بعد حلاقة لحية علي السوداني ، نفس التاريخ الذي أرخه الكثير من البغداديين بعد الفيضان الذي أجتاح اجزاء كثيرة من العاصمة بغداد في أربعينيات القرن الماضي . أنطلقت ضحكات علي السوداني وصخبه يرافقها طيبته العالية ، اصبحت الجلسة أكثر جمالية حتى أنتهى وقت النصف ساعة التي كانت محددة لجان دمو وصديقه الرسام الذي زاد من صخبه وشعاراته الشيوعية الرنانة التي عفى عنها الزمان ومضى ولم يبق منها سوى الذكر الطيب والحنين لذلك الماضي الذي أغتالته يد الشر المتمثلة بحزب البعث ونظامه الاجرامي . غادر دمو وصاحبه بعد أن وضعت ربعاً من العرق بجيب جان الذي ضحك ليّ وهمز بعينه اليسرى بأن لا يعرف صاحبه بهذا الربع الزائد . في تلك الاثناء اقترح الشاعر الاردني طاهر رياض أن يسمع القليل من الشعر وألح على صديقه شاعرنا الماجدي بأن يقرأ قصيدته الجديدة التي كتبها قبل أيام ، القصيدة جميلة لم أتذكرها لكني أذكر أن ثمة جدار ينفتح لتخرج منه يد الشاعر ، هذا الجدار وتلك اليد ظلت عالقة بذاكرتي من قصيدة الماجدي التي أدهشتنا . ليقرأ محمد النصار قصيدته اشجار التي نعرفها جميعاً ثم توالت القراءات لتتوجه نظرات الفنان علي منشد الى طاهر رياض الذي كان يجلس قبالته ، ويسأله بعد نظرات يقدح منها الشر والشرار ، كنت أراقب الموقف عن كثب مخافة أن يتبوء منشد بكلمات لا يتحملها الضيف خاصة وأنه جاء مع خزعل الماجدي ، كان طاهر رياض يتجنب نظرات علي منشد بخجل واضح أرقبه ، حتى أخرج علي  منشد درته ليقول للرجال ( أنت ما عندك شي ) . وعادة ما يردد منشد هذه الجملة حين يسكر ويقصد بها تحديداً ، بانه لا يملك شيئاً من الابداع ! بينما الشاعر طاهر رياض من شعراء الاردن المهمين والرائعين بحق ، إلا أن صديقنا منشد لا يعرف هل أنه فنان أم شاعر ، وهكذا هو علي منشد يوّجه دائماً هذه الجملة حتى لشعراء كبار احياناً ولهم تاريخهم الشعري المعروف على مدى عقود طويلة ، إلا أن السكر يجعل منه شخصية ثانية حين يفرط  به ، خاصة حين يكون لوحده فيتذكر عائلته المكونة من زوجة وطفلين جميلين بعمر الورود هما ( كرار وهديل ) ولطالما شاهدته وهو يبكي بحرقة عليهم ، ولعل فراقه لاطفاله الصغار جعله أن يتقمص شخصية عدوانية في بعض الاحيان . همست في اذن طاهر رياض الذي استقبل جملة علي منشد بابتسامة دلت عن شاعرية هذا الانسان الرائع ، بالمقابل حاولت أن أقمع علي منشد وتوبيخه لكنه تفهم الموقف وعاد الى طبيعته الهادئة ، لينطرق الباب مرة أخرى كانت الساعة قد شارفت على الثانية صباحاً ، فتحت الباب وإذا بالعقال العراقي أمامي والدشاديش البيضاء وهي تحجب عني رؤية الباب وفضائه ، انتبهتُ لشخصين صاح الاول ها هادي ( عصابتك موجودة ) كان الفنان الكبير حسين البصري وصديقه الخليجي الذي يحاول أن يحصل له على تأشيرة سفر الى دولة الامارات المتحدة ، رحبت بالبصري الذي تربطني  به علاقة صداقة وأخوة منذ  سنوات طويلة ونحن في العراق ، دخل حسين البصري وصديقه وكان يحمل عوده ، ليباشر مع عوده عبر أغانيه الجميلة التي تحرضنا على الرقص لا محال ، غادرنا الشاعر صلاح نيازي الذي لا يتمكن من السهر طويلاً ومعه الشاعر فوزي كريم فهم يسكنون في نفس الفندق على ما يبدو ، واستمرت سهرتنا حتى الصباح ، الجميع قام ليرقص رقصة المنفى ، رقصة الظلم والقهر المكبوت في دواخلنا ، كان عود حسين البصري وأغنياته ترقص حتى كوؤس العرق التي كانت تتخذ من مائدتنا الارضية مكاناً لها ، تجلى نصيف الناصري برقصته المستوردة على ما يبدو والتي لم أرَ مثلها من قبل ليذهب راقصاً الى مطبخ الغرفة البعيد نسبياً ويأتي وهو يرتدي الباروكة النسائية التي أشتراها من سوق الهرج في عمّان قبل أيام حتى سقطنا أرضاً من قوة الضحك ، استمر حسين البصري في غنائه مع  ابتسامته العريضة وهو يشاهد موقف نصيف ،ثم نهض الشاعر خزعل الماجدي ونهض الجميع يرقصون ، حتى اصبحت الغرفة ترقص لوحدها ، كان حسب الشيخ جعفر يتخذ من باب الغرفة المطلة على مطبخها مكاناً يقف به ويتغازل مع كأسه وهو يطرب على غناء حسين البصري ، وبعد أن تعب الناصري من الرقص وهو يرتدي الباروكة النسائية حتى خلعها ليلبسها في رأس خزعل الماجدي الذي أصبح شكله أكثر جمالاً بعد أن زرع الناصري في صلعته الشعّر الكثيف ليستمر الماجدي برقصه ونحن معه ، بينما الناصري كان يصرخ بقوة وهو يردد ( لقد رقصنا هذا اليوم أكثر مما رقص معاوية بن ابي سفيان في معركة صفين ) ! في تلك الاثناء وبهذه الاجواء الصاخبة كان باب الغرفة قد طرق لاكثر من مرة إلا اننا لم نفتح الباب ، فليس ثمة وقت قد بقيّ لاستقبال ضيوف أو اصدقاء أو ثمة مجاملات ، بعض الاصدقاء الذين طرقوا الباب حاولوا الالتفاف من الهوة والسياج ما بين الغرفة والمطبخ وقد نجحوا في ذلك لكني لم اسمح لهم بالدخول الى الغرفة وأكتفوا أن يكونوا متفرجين . لحظات حتى توقف البصري عن الغناء الذي كنا بأشد الحاجة أليه في تلك الساعة وقد شارف الوقت على طلوع الفجر ، غادرنا حسين البصري وصديقه الخليجي بعد ليلة صاخبة لنخلد الى النوم بعد سهرة لا مثيل لها في ذلك اليوم الذي لم يفارق ذاكرة الجميع حتى هذا اليوم بعد مرور أكثر من أربعة عشر عاماً ..!