23 ديسمبر، 2024 2:32 م

رقدة العقل العراقي

رقدة العقل العراقي

يرتبط العقل بالمعرفة ارتباطاً جدلياً حيث يستمد أحدهما مضمونه من الآخر، فإذا كان العقل هو الكينونة المادية التي تجسد ارتقاء وعينا الإنساني، فإن المعرفة هي وسيلة التحقق من ذلك. وباعتماد الكينونة المادية للعقل، فإننا نفهم ضمناً إن للعقل حدوداً فيزيائية لا يمكن تجاوزها ضمن مدى الاختلافات العشوائية بين الأفراد.
وعلى نقيض العقل، لا توجد نهايات مكانية أو زمانية للمعرفة. فإذا كان الحال كذلك فإن من السخف اعتبار الإلمام بمعلومة معينة غاية بحد ذاتها دونما اعتبار لدور تلك المعلومة في تطوير مهاراتنا لجني مزيد من المعرفة.
لتوضيح ما تقدم، دعونا نتخيل عالماً يسوده العقل بمخزونه المعرفي المحدود والمجرد من آلية استيلاد المعرفة لذاتها، ربما يكون ذلك العالم لوحة جميلة لكنها ستكون جامدة وستتعرض بالتالي لفعل عوامل التآكل فتبليها الأيام.
قد نتساءل عن هذه المرحلة عن العلاقة بين استيلاد عقل عراقي معرفي جدلي وهذه السطور المفرطة في التأمل الفلسفي، لكنا ألسنا نتحدث عن حالة جمود معرفي وعن نقيض دينامي تمثله جدلية الارتقاء المعرفي عبر حواجز الزمن. ألا يجأر البعض منا بين الفترة والأخرى بدعوات على شاكلة – نقل التكنولوجيا- أو الاهتمام بجانب المعرفة التطبيقي والابتعاد عن ترف المساهمات العلمية النظرية. ألا تمثل تلك الصيحات دعوات لتقزيم دور العقل العراقي في توابيت معرفية يحظر عليه الانعتاق منها.
إن التسليم بهذه الدعوة أو تلك يمثل نقيض الجدلية الدينامية التي تصطبغ بها علاقة العقل بالمعرفة. بالمقابل، يستدعي تسليمنا بوجود مثل تلك الجدلية إقراراً منا بأننا اليوم لسنا ذاتنا بالأمس ولن نكون نحن في الغد.
قد يكون هذا الكلام مخيفاً عند تجريده من بعده البيولوجي المتغير والتأكيد فقط على جانبه الإنساني المجرد. إننا بفعلنا الأخير سنشبه الآباء الذين يريدون إبقاء أبنائهم أطفالاً ويرفضون الإقرار بأنهم يكبرون بمرور الأيام.
ربما نحتفظ بصور من مرحلة الطفولة نستخرجها من أدراجها بين الحين والآخر، ندقق فيها، ثم نهتف بفرح أو بحسرة – سقى الله أيام الصبا- هذا سلوك إنساني مفهوم لكن السلوك المرفوض هو إن نصر على قولبة ذاتنا ونحاول البقاء أطفالاً أو كهولاً أو شيوخاً.
العقل العراقي المعاصر هو ضحية الأسلوب المعرفي المقولب الذي تكرسه شتى نشاطاتنا واجتهاداتنا الفكرية. نلمس ذلك في مناهجنا المدرسية المبنية في غالبيتها على حفظ الحقائق دون استقرائها أو استثمارها في نشاط معرفي استيلادي. لا أقتصر حديثي في هذا المقام على المواد العلمية التي تفترض طبيعتها وجود حدود جدلية دنيا بين عناصرها والتي قد يظن إنها المقصودة أساساً بالنقد. وفي الحقيقة، أريد التأكيد على جانب العلوم الإنسانية التي يجسد تدريسها نمطية التلقين تلك.
يقول ابن خلدون، إن الاكتفاء بسرد التاريخ عن فلان ثم عن فلان يحوله إلى مجرد رواية سيرة ويغفل بالتالي الغوص في عالم الأسباب والنتائج، وفوق هذا وذاك استخلاص العبر. ربما لا أجانب الصواب إن نوهت إلى انتشار عدوى الحفظ إلى تعليمنا الجامعي. ربما يحلو للبعض أن ينسلخ عن جلده فتختلف صورته أمام المرآة لكنها ستظل كما كانت تحت المجهر.
هذا العقل العراقي المؤطر، هو الذي يستبيح المنطق لأنه لم يعرفه حق المعرفة. وبسبب غياب المنطق من قاموسه، فإنه يقفز في حديثه أو أحكامه إلى نتائج لا تحتملها الأسباب لكنه يصر على ديباجة – بناء على ذلك-.
هذا العقل هو أيضاً الذي يحلق في سماء الأسباب الوهمية تمهيداً لقفزة مفاجئة تبدو ضرباً من الإلهام الفكري. راقبوه وهو يختصر الأسباب إلى مجرد – سلسلة من الواوات- التي لا يعرف هو نفسه ماذا تعني لكنه يعرف بحكم التقليد إنها ضرورية لتبرير النتائج.
هذا العقل يعجب كيف يقول ديوجين لقائد كالإسكندر المقدوني:- لا أريد سوى أن تغرب عن وجهي لأنك تحجب الشمس عني. أو كيف يستأذن التاج الإمبراطوري البريطاني من إسحق نيوتن أن يحدد موعد ومكان وأمد مقابلة الإمبراطور بطرس الأكبر، أو كيف يرفض اينشتاين أن يصبح رئيس دولة.
هذا العقل العراقي المعاصر لم يكن كذلك في الماضي لأنه كان قادراً آنذاك على اختراع الحروف الهجائية وتدجين القمح والشعير والسكنى في أول مستوطنة بشرية وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهراً واليوم إلى أربعة وعشرين ساعة والساعة إلى ستين دقيقة.
هذا العقل لم يكن راكداً مستسلماً كما هو اليوم، فما هي رقدة الموت تلك أم تراها غيبوبة الوحي؟! كيف السبيل للظفر بهذه وللنجاة من تلك؟! لابد أن نروض عقولنا على منهجية التفكير السببي. أن نعاود تعليمها إن السماء لا تمطر ذهباً أو فضة وأن نعلمها كيف نروض الطبيعة عندما لا تمطر السماء ماء أيضاً. ولكي نحقق ذلك يجب أن نصغي لهتاف العقل، يجب أن نفكر جميعاً، لأن أفلاطون يلعن المدينة التي لا يعلو فيها سوى صوت رجل واحد، آنذاك فقط سندرك جميعاً إن الممكن لا يصبح ممكناً بالخرافة بل بالعقل.
يقول فرويد :- لا، ليس علمنا وهماً إنما الوهم هو افتراض إن ما لا يمكننا تحقيقه بالمعرفة يمكن الحصول عليه عن طريق آخر. فإذا أدركنا مضمون هذه المقولة سندرك على التو إن الممكن سيظل خرافة لا يمكن تحقيقها دون استثمار جهد موجه دؤوب يتناسب وحجم ذلك الممكن. ربما من أجل ذلك حافظ عراقنا العزيز في أحسن الظروف على حالة ثبات في بعض الجوانب وتراجع إلى الوراء في كثير من الحالات، قد لا أكون مبالغاً إن اعتبرت السبب الرئيس وراء هذا الواقع المفجع هو غياب العقلية المعرفية الجدلية التي قد تدفعك أحياناً إلى تجرع المر، لأنه الأسلوب الوحيد المؤدي إلى الشفاء. وبغياب مثل هذه العقلية سنرفض المر القليل على أمل الشفاء بدونه فتكون النتيجة أن نتجرع بعد حين قد لا يطول، المر الكثير، ولكي نقتنع جميعاً بضرورة تجرع المر القليل لابد أولاً أن ندرك طبيعة العلاقة بين المرّين ثم لابد أن نوفر آلية تجنبنا المر الكثير في المستقبل.
[email protected]