نهاية كل شهر وبالتزامن مع توزيع الرواتب كانت تنتظره إمرأة عراقية مسنة ” أم فلان ” بعباءتها السوداء جالسة على دكة حجرية خلفها حديقة صغيرة أمام البوابة الخارجية لمكان عمله وقد أحنى ظهرها الزمان ورسم على وجهها من التجاعيد الكثير لعل كل تجعيدة منها شهدت حربا ، بؤسا ،هما، ألما لم يشعر به مسعروا الحروب داخل قصورهم العامرة ومواكبهم الفارهة ، بإنتظار أن يدس في يدها مبلغا من المال يقتطعه من راتبه القليل كونه عقدا وليس على الملاك الدائم لمساعدتها وهكذا لسنتين متتاليتين شاءت الأقدار أن أصحبه فيها طيلة تلكم الصباحات الشهرية لأتابع عن كثب نفس الموقف الإنساني النبيل وذات يوم لم تأت ” أم فلان ” على غير عادتها ، شهر ، شهران ، ثلاثة ، أربعة لم تظهر وعبثا حاول زميلي معرفة أسباب غيابها المفاجئ واذا بعاملة نظافة – فراشة – مسنة مثلها كانت زميلة لها في العمل قبل أن تقرر إدارة المؤسسة الإستغناء عن خدماتهما مع عدم إحالتهما على التقاعد لأن مدة خدمتهما السابقة كانت في مؤسسات أهلية وليست حكومية وبالتالي لا يحق لهما إضافتها ،ولأن كبر سنهما لم يعد يشفع لهما في أداء المهام التنظيفية المناطة بهما كما كانا عند شبابهما مع أن مجموع راتبهما الشهري لا يتجاوز – 500 – الف دينار بواقع – 250 الف لكل واحدة – ولأن بعض الهاي شلة ، والهاي فلة – من الموظفات ممن لا يؤدين مهام التنظيف في بيوتهنَّ فما بالك بدوائرهنَّ قد شاغبنَّ عليهما يوميا بما كان كافيا لطردهما ولا أقول تسريحهما بإحسان من العمل قبل نهاية العام ، أخبرته زميلتها بأن ” أم فلان “ماتت وهذا هو سبب غيابها عن دكة الحديقة بموعد الراتب منذ خمسة أشهر، فصار زميلي وكلما مرَّ بدكة الحديقة ترحم عليها بالدعاء قائلا لي ” لقد ساعدناها ماديا في حياتها نهاية كل شهر، فلنساعدها بعد وفاتها بالدعاء لها يوميا اذ أن الكرم والجود لا يتوقف بوفاة صاحبه فتذكروا موتاكم بالدعاء والصدقة لعل الله عز وجل يقيض لنا من يذكرنا بعد ..الرحيل ” وعلى سراق العراق المحترفين من السياسيين أن يعيدوا حساباتهم جيدا قبل فوات الأوان .
اليوم وبينما كنت أتأمل بتداعيات الضربات الاميركية الأخيرة على مواقع عسكرية غربي العراق وتلويح الإدارة الأميركية بشن غارات جديدة مماثلة اذا اقتضت الحاجة وتباين ردود أفعال السياسيين إزاءها وانا أفكر بماذا سأعقب وماذا سأكتب – دخت – وزاد في دوختي – النشلة – التي أصبت بها فجأة فهممت بالجلوس في إحدى المقاهي القديمة وهي ولاشك من ” ملهمات الصحفيين والكتاب والشعراء ” واذا بـثلاثة أشخاص كبار في السن يعانون من بدايات وبعضهم نهايات الزهايمر والخرف :
الأول للثاني : كلي الطرف الثالث بهذي الحرب منو ؟
الثاني : شنووو؟!
الاول : أكلك الطرف ..الطرف الثالث ..بالحرب ..منو ؟
الثاني : علي صوتك يمعود ما دا أسمعك ” .
الاول : الحرب الحرب والطرف الثالث منو ؟
الثاني : ياحرب ..علي صوتك ما دا أسمعك ” .
الاول : اكلك الطرف الثالث بالتظاهرات منو ..هاي شبيك ؟
الثاني : والله ما دا افتهمك شتدريد ” .
الثالث : الطرف الثالث هذا اسمه باسم ..باسم ..نسيت اسمه الثاني !!
طرف رابع والابتسامة المعرفية تعلو محياه : باسم سليماني !
الثلاثة : ها ..ايييييه صحيح ، قالوها وهم على ثقة تامة بأنهم وبرغم خطأهم قدا أصابوا كبد الحقيقة ،
والحق يقال أنني وفيما كنت أتابع بفضول الصحفيين حوارهم الآنف حزنت كثيرا على هذا التوهان والنسيان المقيت وإنحطاط القوى، وهزال الأجساد ورجفان الأيدي وإرتعاش الأكف وضعف السمع وقصر النظر، وانحناء الظهور وبالأخص أن الثلاثة من المثقفين القدامى وأحدهم كان مدرس ثانوية لأكثر من 30 عاما وليسوا من أنصاف المتعلمين ، ولم أملك في هذه اللحظات سوى أن استذكر قوله تعالى ” ومن نعمره ننكسه في الخلق أَفَلَا يَعْقِلُونَ” ومعنى ننكسه كما قال المفسرون أي نرده وكأنه طفل صغير لايعلم من بعد علم شيئا وهذه سنة كونية ماضية في الخلق ، لعل واحدة من أبعادها هو إختبار بر الابناء بالأبوين عند كبر سنهما ووهن عظمهما كما ربوهما صغارا ” فرفقا بالزهايمريين والباركنسويين وكبار السن في كل وقت وحين فهم بركتنا ومقياس لرحمتنا وتراحمنا فيما بيننا ، نعم لقد أحزنني المسنون ، العاطلون ، الزهايمريون فرفقا بهم !أودعناكم اغاتي