23 ديسمبر، 2024 3:17 ص

رفــــــــحـــــــــــــاء

رفــــــــحـــــــــــــاء

لم يكن الثوار الذين خرجوا في انتفاضة آذار عام 1991 ببنادقهم ضد نظام يعاقِب ُ الناس َ على الحُلم، قد حجزوا تذاكرَ مبكرة الى لندن وتكساس والسويد وفنلندا والدول الاسكندنافية ، بل كانوا راحلين الى الموت في لحظة تاريخية فريدة ، تقف عندها الشعوب بين طريقين ، الموت بكرامة او العيش بكرامة.

هؤلاء الاصلاء الذين ولدوا جميعهم شيوخا، القادمون مع آل بيوتهم من كرمة بني سعيد والطار وآل حرب وغليوين والشامية والعكيكة وغيرها من مدن اربعة عشر محافظة عراقية ربما لم يسمع العراقيون جميعهم ببعض اسمائها ، لم ينتفضوا لذواتهم ولمصالحهم بل انتفضوا للعراق كله، لشعبه الذي كابر وصبر وانتظر من النظام أن يرحم شعبه وان (لايلقي به الى التهلكة) فاهانه وأهان جيشه حين ورّطه في حروب غير متكافئة انهكته واذلته وجعلت جنوده يقبّلون أحذية الاعداء على الشاشات ، اهلهم واخوتهم انتصفوا لجثثهم التي اختلطت برمال الصحارى ، فقالوا ، لا ، وكادت قولتهم أن تنقذ العراق من براكين الاخطاء واعادة الاعتبار للشعب والجيش لولا أمريكا، امريكا ذاتها وليس غيرها حين وقفت مع صدام ضد الانتفاضة وأفسحت له الطيران وتحريك ماتبقى من قطعاته ، بحجة أنّ ايران وراء مايحدث .. وكأن العراقي إما خنيث أو عميل ، لايحق له ان يكون عزيزا كريما ينتفض ويعترض من اجل مصالح بلاده وتجنبا دمار شعبه .

القمع

السلطة التي كسرتْ الهزائمُ ظهرَها وشرفها وعينها ، ووقّعت صاغرة على تفصيخ العراق وبيعه الى امريكا ودول الخليج في خيمة صفوان المخزية ، استدارت بحرأسها الموتورين الهائجين محطمَي المعنويات لتنصب ملاعب التعذيب والسلخ وجز الرؤوس الجماعية في الرضوانية وفي المسيب وشمال الحلة وجميع دوائر الأمن المرعبة التي شهدت قتلا لم يحدث في الوجود من آدم الى يومنا ، وفي واحدة من اساطير القسوة التي استخدمت ضد شباب الانتفاضة ، حين جمّعوا الشباب على الظن وعلّقوا في رقابهم اطارات السيارات واحرقوها ليسمع دوي صراخهم في سماء المدن ليلا فيعذب بها النائمون من ذويهم ايضا، ثم يساقون عند الفجر الى مقابر جماعية .يدفنون بالجملة وهم نصف أموات !!.لم يكن هناك فيس بوك واجهزة ذكية كي يرى العالم ماذا ارتكب من جريمة ابادة بحق النساء والاطفال ومن احراق وتعليق من الاعضاء التناسلية وتقطيع أوصال ، لقد كانت ارواح الثوار تعلو مع الانبياء حين تداس قلوبهم باحذية علي المجيد وروكان رزوقي وخنازير السلطة حينذاك. لقد حطمت تلك المشاهد وقتها قلوبنا وشككتنا بامكانية الخلاص يوما وأربكت انسانيتنا، حين أتخذ القرار بابادة الجميع، وهو ماورد على لسان علي المجيد : “أبيدوهم جميعا”، ليصفو العراق على غيوم من الدم وقوافل الثوار تلوذ بهم العوائل الفقيرة مرعوبة تتجه الى المجهول ، الى الصحراء، الى مقابر على الارض هربا من مقابر تحتها .

رفحاء


شخصيا كمواطن وشاهد ، استنكر ان يكون اسم (رفحاء) عنوانا لاولئك الابطال الذين لم ير الحقُ بعد علي وابنائه ناصرا له مثلهم. فتلك المقبرة التي يشرف عليها السعوديون وهم لايعرفون قدر من هم على شفاها.تحمّلها الثوار بانتظار العودة الى عراق جديد ،واخذوا يعدون الايام والساعات وسط ظلم ذوي القربى وقساوة ارض مكة التي ابتعدت اكثر عن صلاتهم حين اقتربوا من حجرها الاسود .

المعارضة العراقية 



الطامحون الى السلطة من المعارضة العراقية الذين لم يروا طيلة نضالهم شارعا عراقيا ، كانوا احزابا بلا قواعد ، وخطباء بلاجمهور ، وبذلك وجدوا في مجتمع رفحاء العراقي المنوّع العاطفي الثائر بمكوناته الثقافية والفنية والعشائرية فضلا عن آماله وتطلعاته وثقته الفطرية بالوعود ، شعبا جاهزا يحييهم من سباتهم ، يستعرضون به امام الدول ( المانحة ) جدية محاولاتهم في اسقاط النظام الذي بات من سابع المستحيلات . فبدأ التسابق على منصات نصبت هناك ، وبدأوا بلعبة الارشاد والتعبئة اللغوية ، كما حيكت الدسائس بين الناس لعل ذلك يكرس الانتماءات الحزبية بدل الانتماء المشترك الى المستقبل، فيما تم اعداد وأد الانتفاضة وتسوية ممكناتها .



التغيير والمؤامرة



مجتمع رفحاء مجتمع محاربين غاضبين ومتمردين من صناع الكلمة والرأي، كان قدَره أن يحارِب ، ان يحاسِب سلطةً منحها الشعب فرصا طويلة الامد ، فالقمته الموت والحروب والعزلة والافقار دون ان تستقيل أو تعتذر . لكن الولايات المتحدة التي قمعت الانتفاضة بطائراتها وبفؤوس صدام بعد ان رأتْ أنّ الثوار مستعجلون كثيرا على التغيير . وان التغيير لابد ان تحدده هي بنفسها كما حصل بعد اثني عشر عاما من التخريب والحصار الجائر ، وانهاء القدرات العقلية والتعليمية لجيل كامل ، تلاقفوه من حرب الى حصار الى حرب الى حصار . ولذلك كان لابد من ملاحقة الثائرين الذين ينتظرون العودة الى بلادهم من مخيمهم الرهيب ، والتخطيط لافشال فكرة التغيير من اساسها فعمدوا الى تشتيت شعبها في اصقاع الدنيا ،ليحقنوهم بمجتمعات غريبة بعيدة ، ويغيروا جينات ثورتهم ويتصرفوا بمصير العراق وتحديد توقيت تغيير النظام فيه على هواهم وهو ماحدث .

التسقيط 



كل ماحدث هو محاولات لتسقيط فعل لم يقم الشعب العراقي سابقا بمثله ، لافي الماضي حيث كان العراقيون جنودا مجرد جنود في حروب عقائدية قادتها جميعا من الجزيرة ، او رعايا لدول اجنبية كالدولة العباسية او العثمانية . ولا في الحاضر حيث اليأس التام من فرص الثورات الشعبية فظلوا مقموعين في ظل حكم الوطنيين على اختلاف خلفياتهم. محاولة التسقيط والنيل من هذا الفعل شارك فيه الكثير بشكل مباشر او غيرمباشر . واولهم السياسيون والتنافس الانتخابي وتحويل المنتفضين من ابطال شجعان الى مساكين اتعبتهم الغربة والعوز وأذلتهم المساعدات الانسانية ! فضلا عن انهيار المثال والقدوة في العراق . فبعد اربعة عشر عاما من حق العراقي في الداخل أنْ يستهين بعراقيي الخارج ، لان تلك القدوات لم توفر سيرة صالحة أو نموذجا من الخبرة والنزاهة واحترام القانون ، بل قدمت اسوأ نماذج الادارة والفساد واهانة المناصب والمراتب لصالح الفاشلين من المنتفعين و الاقارب.
 وفي غمرة تنصل الكثير من العراقيين الذين عاشوا خارج العراق من صورة الخارج التي باتت مرادفة للشراهة والعمالة والتعصب ، يزج باسم الانتفاضة باعتبارها ( رفحاء) مصنعا ينتج عراقيي الخارج الشرهين على اموال البلاد دون حق !! ويصبح اسم ثوار الانتفاضة وشهداؤها ( الرفحاويين ! ) النازحين الذي هربوا ثم عادوا من اجل رواتب تقاعدية لهم ولابنائهم وهذا بوضوح أحط انواع التضليل والتسقيط .

تحذير 



كان يمكن ان لايأتي يوم تناقش فيه (انتفاضة آذار 1991) على هذا النحو ، أنْ يكرم شهداؤها قبل احيائها ، وان تقدم لهم الشارات التاريخية والنُصُب، وان يتم اعداد دراسات عن عراقية الانتفاضة بوصفها فعلا وطنيا نادراً في تاريخ الدولة العراقية بدل ان تستخدم في التوازنات الانتخابية الرخيصة فيقدم رجال دين فاشلون سياسيا قوانين لم تحسب أبعادها النفسية والاجتماعية والاقتصادية وسلامتها الادارية ومستقبلها ، متصورين انتاج قانون كما تصوّره صدام يوما ” شي نكتبه بادينه يمته مانريد نغيره ” . وهكذا اصبح الثوارُ متسللين يدافعون عن قانون وفرّ لهم مكاسب غير مفهومة ، في ظل فوضى وجهل وارتجال يسود الدولة العراقية كلها …كان يفترض (بالرفحاويين) في أضعف الايمان أن يصمتوا وان لايدافعوا وان يحتسبوا الى تاريخهم وأرواح شهدائهم ، فاذا ما جرفت فوضى القوانين نعمة اليهم سكتوا ان لم يرفضوها ، واذا انتبه اليها الناس تعففوا عن الحديث فيها حتى تنجلي … فلم يكن هذا هو الهدف من خروج المجاهدين للتغيير والاصلاح أبدا ، بل كان هدفا آخر تماما تماما. هدفا مقدسا وطنيا ودينيا ، أهانوه جميعا حين مُنِحوا مقابلا ماليا عنه .