23 ديسمبر، 2024 12:53 ص

رفات احمد الجاسم .. يهبط سعيدا في الناصرية

رفات احمد الجاسم .. يهبط سعيدا في الناصرية

مثل طائر الفينيق يعود نعش الفنان السومري ( أحمد الجاسم ) ( 1952—1994 ) الى مقبرة خلوده كما فعل جلجامش حين شعرَ أن موت الغربة موتاً آخرا في الجسد الواحد ، فعاد الى أوروك ليبقيَّ لروحه وجسده خلودا في عطر الطين وجدران ذكريات مدينته .

يهبط رفات أحمد الجاسم آتياً بأجنحةِ وفاء أخيه الأصغر محمد الجاسم من مساء برليني بارد الى دفء مدينة الولادة ( الناصرية ) ، ليسجلَ هذا اللقاء بين مقبرة في برلين ومقبرة في النجف وجه أسطورة يخططها أحمد بقلم الكرافيت عبر نافذة قصيدة يكتبها أو حبيبة يرسمها ، أو صرخة جائع في شوارع اليسار العالمي .

كان أحمد الجاسم فنانا مثقفا ، وريشة عرفت تماماً أن تصنع لها شهرة الاحتراف ليعطوه منصبا لايُعطى لأي فنان أجنبي من غير النسل الجرماني عندما تولى رئاسة ورشة الرسم في مسرح شيلر العريق في مدينة برلين.

عبر تلك المسافة بين رحيله الازلي في المكان المنفى قرابة عشرين عام ، وهي أعوام حنين لطويلة لمدينته لتقبلَ النعش في صمت دمعتها ثم تشيعه بمهابة روحه وألوانه وقصائدهُ الغرامية.

هذا الفتى الجميل هبط سعيدا على صباح الناصرية بالرغم من أغماضته الطويلة في مقبرة العظماء بالعاصمة الالمانية ، لكني أشعر بفرح روحه وسعادتها وقد تخيلت عودتها الى المدينة الأم كما تعود السنونو في هجراته السنوية من بلاد البلطيق وبحر الشمال لتحط على اكواخ مدن أور ولارسا والناصرية والشطرة وأكد والبصرة ، ليسجل ذلك الصباح قدوم ملاك طيب اتى بصمته ودهشته ليلوح للمدينة الوادعة بأصابع وداع تأجل عشرين سنة من حسرة أخيه ( محمد ) ليحمل رفات أخيه الى مثاوي النخيل ودمى الطين وأحلام باحة النبي أبراهيم  ، فيما سكنت أجفان أحمد حسرة نزلت من أجفانه النائمة كما قطرة مطر على صديقين كان يتمنى أن يكونا أول المستقبلين لسفينة هذا السندباد القادم من خريف اوربا الى شمس مدينته ، عندما تمنى وجود القاص الراحل محسن الخفاجي والشاعر البصري حسين عبد اللطيف اللذين التحقا اليه في فردوس دلمون ليكونوا هناك مجلسا لأنس الذكريات والقصيدة والعناق.

مثل فختاية ، وحمامة اجنحتها مثل حجر اللازور ، وهدهد لونته طفولة شوارع الناصرية واشجار حديقة غازي ومتنزه المدينة يهبط بمظلة اجفانه ، يستيقظ من رقدته كما يستيقظ الاله السومرية تموز ، يحمل عدة الرسم وبريشة من الحنان وموال شطري يصوغ الاشتاق تعابير لحظة رائعة يتراقص فيها حماس الثورة القديمة ورسائل الحب وخواطر مدارس الجمال ومذاهب سريالية الشباب.

تستقبلهُ المدينة ، وتتخيل نعشه جدار تعلقُ عليه كل اعماله يوم كان قلبه يبدع على جدران مسارح برلين وميونخ وباريس حكايات هذا العاشق الذي حمل طفولته وطلاسمه وأساطيره ليسجلها مثلما يسجل فنانو سومر خواطرهم على حجر المسلات وابواب المعابد وتيجان الملوك ومخادع الالهة.

هبط سعيدا ، لأن العصفور المغرد بلون اللوحة  وبالابتسامة المفتوحة الاذرع كما نجمة عاشقة عاد الى العش مزهوا بحمية المدينة واهلها ، بوفاء اخيه الاصغر ( محمد ) الذي سكن ( دورتموند ) ولم يتوانى او يصيب حلمه اليأس ليجاهد ومنذ سنوات في رغبة نقل جثمان اخيه الى مقبرة وادي السلام.

بين أبتسامة أحمد ودمعة ( محمد ورملة وحيدر ) ، يمشي النعش في جسد المدينة وشوارع . ليسجل وقائع أحتفالية وعودة ميمونة لهذا المسافر الابدي في صمت اللغة واللوحة والطين ، عودة تسجل تاريخا مدهشا لمدينة تعاني من اشياء كثيرة تحتاجها ، مبنى لادبائها ، وكاليري يليق بفنانيها ، وخشبة لمسرحها العريق ، ونادٍ لطموحات شبابها السينمائيين ، وأشياء اخرى.

هبط الرفات من سماء برلين الى أديم فرات أور …يسكنه فخر اللحظة التي تكون عودتها ، سعادة دلومنية يطعمها عطر ذكريات شاي المقهى وصباحات الجندية في معسكر تدريب البصرة . والنكهة الساحرة لكتاب حسين عبد اللطيف ( امير من أور ) وقد اهداه الى روح من يسكن بالصمت غائبا في حدائق المقبرة الالمانية.

لكن الامير يعود الأن الى مهده وطفولته وشبابه واصدقاءه.

عودة دمعتها عطر وأبتسامتها نخوة المدينة ومثقفيها ومسؤوليها ليصنعوا لهذا الطائر القادم بأجنحته السومرية تشيعاً يليقْ فيه وبروحه الجميلة.

أهلا بك أحمد الجاسم…

عدت الى مخدتكَ ، وأرجوحة العيد وقراءتك الخلدونية..

عدت الى مطبخ أمك وعيدية الوالد وصحبة محسن الخفاجي .

عدت الى المدينة وحضنها ، تشمكَ ، ثم تودعك بزهو الكهنة والجنود وملوك السلالات لتُودعكَ ثرى الطف .

بين نومتين .مؤقتة في مقبرة في برلين.

ودائمة في النجف .

يرقد رفات احمد الجاسم…

هادئا ، صامتا ….

وبين اغنية وأشتياق

أصابعهُ الأنيقةُ تتحرك لترسم شيئا………….!