18 ديسمبر، 2024 10:42 م

منذ ان لونت الحرب شوارع الوطن بالأحمر والأسود وصار الرصاص بديلا عن دقات الساعة، انزوى الفرح  خائفا من ان تنال ما تبقى من اشلائه رصاصة طائشة او عبوة ناسفة.
وفي غفلة من عيون القتلة والسفاحين، خرج الفرح راقصا باكيا متناثرا يجري كالمجنون يطرق ابواب العراقيين ويدعوهم الى حفلة سمر بعد ان باتت ليالي السمر لديهم خاوية تجرجر اذيال ساعاتها المثقلة باخبار القتل والدمار. وكالسيل الغامر بعد جفاف، انطلقت مواكب الأعراس لتزيل ركام الحزن عن الشوارع وعلت أصوات الموسيقى والزغاريد لتخرس أنات الحزن وأصوات الانفجارات. وكأي أم عراقية، تطافرت دموع (أم محمود) وهي ترى ابنها يتألق ببدلته -التي أصرت والدته على أن تكون بيضاء- الى جانب عروسه، وفي داخلها.. كانت ام محمود قد قررت بأن تكون دموعها منذ اليوم فقط دموعا للفرح ، فبعد ان فقدت إبنها البكر في الحرب الطائفية دون أن تشهد عرسه، قررت أن يكون عرس (علي) فرحتها الكبرى.
وكالعادة، دكت أقدام الراقصين من أصدقاء عليا الأرض وهم يحيطون به، اشرقت ابتسامة العريس وهو ينظر الى عروسه بشغف خجول متأبطا ذراعها لينتشلها من دمعة تلألأت في عينها وهي تعبر الممر وتلقي نظرة وداع على دار أهلها. وقبل أن يدلف علي الى سيارة (الزفة)، استوقفه عدد من أصدقائه (المحبين جدا) ليعبروا له عن حبهم وفرحهم الجنوني برقصة (الجوبي) على وقع ضربات طبول الفرقة الشعبية التي استأجروها لمفاجأة العريس. وارتفع مؤشر الحماس لدى احدهم فجذب مسدسه ليطلق رصاصات الفرح في الهواء.
جفلت أم محمود وهي تسمع صوت الرصاص، حاولت أن تشق طريقها بين الراقصين لتتوسل صديق إبنها الوفي أن يكف عن إطلاق الرصاص، فقد كان صوت الاطلاقات هو آخر ما ترغب بسماعه يوم زفاف ابنها. وقبل أن تصل الى مصدر الرصاص، سبقتها (آه) إنطلقت لتغرز سكين الخوف في قلب أم محمود، أدركت بقلبها وهي تحاول شق طريقها عبر حلقة الراقصين، إن جرح محمود فغر فاه في صدرها ثانية.
ساد الصمت للحظات، كانت كافية لخطوات ام محمود المتعثرة لتصل الى مصدر الآه، تكممت أفواه الاصدقاء وشخصت أبصارهم الى الأرض حيث يرقد (كمال)، الأخ الأصغر للعريس. تهاوت الأم فوق ابنها لتلم شيئا من دمائه التي سالت ماحية آثار أقدام الراقصين، رفعت عينها ذاهلة متسائلة، لم تنطق الوجوه من حولها، فقد تحول العرس الى مأتم بعد أن كمم صوت الرصاص الفرح، وتحجرت الدموع في مآقيها لتتحول الى صرخة تضج بها حناجر كل الأمهات: يكفينا رصاصا، فلم يكن الرصاص يوما للفرح.