ان تشريع الأحكام الدينية يتبع وجود مصالح في أفعال معينة فيوجبها الدين أو يحكم باستحبابها وفق شدة تلك المصلحة. ويحرم افعال او يحكم بكراهتها لوجود مفاسد فيها وفقاً لشدتها. ولابد من قيام حجة شرعية على وجود تلك الملاكات للأحكام ولايجوز أن يكون الاستحسان أو الهوى أو مجاملة العامة مستنداً للحكم بجواز شيء أو منعه.
ونفس الفعل قد يتصف بحكم شرعي معين في ظرف ما, وفي ظرف آخر يتصف بحكم شرعي مضاد للأول وهو مايعبر عنه بالحكم الثانوي.
أولاً:ـ فما ذكرته جنابك من( أن الأصل بالأحكام الإباحة ولابد من إقامة الدليل على حرمة مسير النساء إلى كربلاء) يحتاج منا الى توضيح قبل الإجابة عليه :ـ فسماحة المرجع اليعقوبي وجه النساء المؤمنات إلى أن يمتنعن عن الخروج مشياً على الأقدام الى زيارة الإمام الحسين عليه السلام من مسافات طويلة تتطلب أياماً. ويمكن أن نقول ان متعلق توجيه سماحته بالمنع هو( السير مشياً من مسافات طويلة تتطلب أياماً ) ـ حسب نص التوجيه.
وحكمة هذا التوجيه أو ملاكه أو علته ـ عبّر ماشئت ـ او المحاذير المتوقع حصولها من عدم إمتثاله كثيرة منها:ـ
أـ مخالفة الحكم الشرعي بقرار النساء في البيوت وكون كمال المرأة في عدم خروجها وبعبارة أخرى مخالفة أفضلية قرارها في البيت على خروجها.
ب ـ سيجعلهن في معرض نظر الرجال الأجانب, وإن كن ملتزمات بالحجاب,وهو محذور شرعي.
ج ـ الإختلاط بين الرجال والنساء ولمسافات طويلة قد يؤدي لحصول فتنة وظروف مريبة خصوصاً وإنك تتفق معنا ـ ليس كل المشاة ملائكة ـ ولا يخلو المسير من ذوي النفوس الضعيفة.
د ـ مبيتها في دور الغرباء وتوفير حاجتها يجعلها في حاجة للرجال وهم أجانب عنها.
هـ ـ عدم رضا أزواجهن على خروجهن ينافي حكم شرعي واضح متفق عليه وهو عدم جواز خروج المرأة إلا بإذن زوجها.
و ـ وجود محطات تزدحم فيها مواكب المشاة بشكل يؤدي الى حصول مخالفات شرعية كثيرة كتزاحم الرجال مع النساء في سيارات الحمل أو التدافع لتحصيل وجبات الطعام ومسك الرجل الأجنبي للمرأة عند صعودها سيارات الحمل المستخدمه غالباً في نقل الزوار المشاة عند قطوعات الطريق الأمنية قبل مداخل كربلاء المقدسة بمسافات قد تصل لأكثر من 30 كم .
إذن حكمة توجيه المرجعية بمنع (مشي النساء لزيارة الإمام الحسين عليه السلام من مسافات بعيدة تصل لأيام ) ماذكرناه أعلاه, فإذا انتفت تلك المحاذير أو المخالفات عندها لاتمنع المرأة من الزيارة مشياً من مسافات بعيدة,ولكن الواقع الخارجي والتجربة المعاشة تثبت عدم إمكان تجنب تلك المحاذير أو المخالفات إلا في الأقل النادر.
ثانياً:ـ قولك (ان سوء استخدام الشيء لايوجب منعه,كما ان سوء استخدام زواج المتعة لايوجب تحريمها) نعم إن سوء إستخدام الشيء لايوجب منع ذلك الشيء بنفسه, ولكن السوء الذي يقترن بالشيء في حال تطبيقه يجعلنا في مواجهة فعل جديد يصدق عليه عنوان جديد ينطبق عليه حكم شرعي آخر غير الحكم الشرعي الموضوع لذلك الشيء بنفسه منعزلاً عن الإساءة المرافقة له أو الطارئة عليه.
فقولك سوء إستخدام زواج المتعة لايوجب تحريمها,معناه إن أصل الحكم لزواج المتعه بشروطه الشرعية باقِ على جوازه ولكن اذا اقترن تطبيق زواج المتعة في حادثة معينة او واقعة خاصة بظروف او افعال مخالفة للشريعة عندها سيتغير الحكم الشرعي بخصوص تلك الحادثة أو الواقعة ,نعم هو لا ينسحب على اصل حلية المتعة بشروطها الشرعية .
والحال هو نفسه في موضوعنا ,فمع خلو موضوع توجيه المنع ـ من اية مخالفة شرعية فإن الاباحة او الاستحباب باقِ على حاله ,ولكن لو أقترن الموضوع ـ الزيارة مشيا ـ باحد تلك المحاذير التي ذكرناها فان الموضوع سيتغير عندئذِ والحكم له سيتغير وجنابك يعلم الحكم يتع الموضوع وجوداً او عدماً.
ثالثا ـ قولك (ان بعض الشعائر تستدعي التسامح في بعض المواقف كما في طواف النساء بالحج مع الرجال وتزاحم الجنسين,في كل او اغلب الشعائر في الحج وهذا لايستدعي الغاء الحج لمجرد الاختلاط ) نقول :ان مراجعة سريعة لإحكام الحج وآدابه تبين عكس ما ادعاه الاخ راسم المرواني ونسوق على ذلك امثلة منها:ـٍ
أـ فالحكم الاولي في الطواف يوجب المرور بين الحجر الاسود ومقام ابراهيم ع وهي مسافة تقدّر بـ 12 متر ولكن لأسباب منها تجنب الازدحام الشديد (وهو ما يستدعي احتكاك المرأة بالرجل ) يتحول الحكم الى جواز الطواف والمرور خارج هذه المنطقة الضيقة
ب ـ سقوط استحباب استلام الحجر الاسود من قبل النساء , وسقوط استحباب الهرولة للنساء في منطقة محدودة من المسعى بين الصفا والمروة بينما تجد ان هذين الحكمين مستحبان بخصوص الرجال
ج ـ سقوط استحباب الجهر بالتلبية في الحج للنساء
د ـ جواز رمي جمرة العقبة لها ليلة العيد وان كانت متمكنة من الرمي في النهار بينما لايجوز للرجل اختيارا الرمي ليلا بل يجب عليه الرمي نهارا
هـ ـ الاكتفاء من المرأة بمسمى الوقوف بالمزدلفة ليلة العيد وان تيسر لها الوقوف في تمام الوقت المحدد ويجوز لها رمي جمرة العقبة ليلة العيد وان كانت متمكنة من الرمي في النهار من دون صعوبة تذكر بينما يجب على الرجل التواجد في مزدلفة طيلة ليلة العيد
و ـ المرأة التي لايتيسر لها الرمي في النهار لكثرة الزحام فعليها الاستنابة وبعضهم يقول بالاحتياط بالجمع بين الرمي ليلا والاستنابة في النهار .
ز ـ في مورد اطمئنان المراة بعدم تيسر الرمي لها من دون الاحتكاك بالرجال على وجه محرّم افتى بعضهم بالاحتياط اللزومي بالجمع بين الاستنابة لرمي المقدار الاصلي من الجمرة, ومباشرة الرمي في المقدار الزائد منها في الطابق العلوي .
ماذكرناه من امثلة في اعلاه توضح حرص الشارع المقدس ومراعاته لتوفير اجواء تمنع وقوع المراة في المخالفات الشرعية حتى في مناسك الحج .
ويمكن القول للاخ المرواني لايمكنك اجراء القياس في الاحكام الشرعية على اساس الظنون والاستحسان ولايجوز قياس حكم الحج الواجب على حكم الزيارة المستحبة ونسوق له مثالا واحدا يبين بطلان القياس على الحج وهو ان كثيرا من الفقهاء افتوا بالوجوب او الاحتياط الوجوبي في لبس المراة البرقع ـ البوشية ـ في حال عدم الاحرام ,اما في حال الاحرام للحج فواحدة من تروك الاحرام للمراة حرمة وعدم جواز تغطية الوجه(عدم جواز لبس البوشية) وهذا مثال واضح على عدم امكان اصابة دين الله بالقياس والظنون الاستحسانية , ويبين مقدار الاحاطة والجهد الكبير الواجب بذله من قبل المتصدي للافتاء وبيان الحكم الشرعي استنادا للادلة من مصادرها الشرعية وخطأ من يفتقد اهلية الاستنباط وشرائط الافتاء للحكم برأيه الشخصي.
ثم نسأل سؤالا ؟ لو كان الحج الذي تقصده المراة مستحبا وليس واجبا فهل يشرع لها بدون اذن زوجها ؟ الجواب لايجوز الحج المستحب للمراة بدون اذن زوجها ,وهذا فرق اخر واضح بين موضوعي الحج الواجب والزيارة المستحبة .
رابعا:قولك(ان المسير الى كربلاء يتساوق مع التعب والحزن وهو مايضعفٍ رغبة الانسان في الالتفات الى بعض الغرائز) نقول: ان واجبات الاحرام في الحج تلزم بترك افعال مباحة كثيرة تصل الى حد حرمة النظر بالمرآة لغرض الزينة وحرمة اجراء العقد الشرعي او ان تكون شاهدا على اجراءه , ومع ذلك لم تخلو احكامه من اعطاء البديل الشرعي للمرأة في تأدية مناسك الحج في حال اشتملت الصيغة او الطريقة الاصلية او أدّت لمحذور شرعي كالاحتكاك مع الرجال الاجانب .
فالاسلام دين واقعي لايقفز على الحقائق بل يضع معالجات وخيارات من نفس الواقع توجه نحو الصلاح والاستقامة.
ولااظن ان الاخ المرواني يرضى باسقاط القيود الشرعية او الضوابط الحاكمة لتعامل الرجال مع النساء عندما يتعرض الإنسان لحزن أو مصيبة.
فهل يصح عندما يفقد إنسان عزيزاً له ان تعقد جلسات يختلط فيها الرجال والنساء بمبرر أن الحزن والتعب يضعف رغبة الإنسان بالإلتفات إلى غرائزه.
إن التبرير المذكور من قبل الأخ المرواني يمثل إستحساناً لا يصلح لدى الشيعة كدليل شرعي.
خامساً: قولك (مسيرة النساء وأزواجهن وإخوتهن مدعاة لتوطيد العلاقة الزوجية والأخوية)
وقولك( الأم تمثل الحاضنة وهي اكثر تأثيراً في افراد العائلة وخصوصاً الأطفال….)
جوابه أ ـ بنفسه هذا الكلام يمثل إستحسان لا يستند لدليل شرعي واضح من قرآن أو سنة بعنوان عام أو سلوك خاص مماثل , ونحن الشيعة لا نعتمد الإستحسان دليلاً في إستنباط الحكم الشرعي.
ب ـ لاتنحصر فرص توطيد العلاقة في المسير فقط ,نعم يمكن أن تكون أحد ميادين توطيد العلاقة العائلية مع مراعاة الشروط والآداب الشرعية.
ج ـ ليس دائماً تكون هذه الرحلات مدعاة لتوطيد العلاقة بل قد ترافقها منغصات من قبيل ضياع الأطفال في خضم الإزدحام الشديد.
وأخيراً نقول إن ملاحظة كثير من الأحكام الخاصة بالمرأة يعطي إنطباع بترجيح قرار المرأة في البيت على خروجها منه ومن الشواهد على ذلك سقوط وجوب صلاة الجمعة عنها وأفضلية صلاتها في بيتها على الصلاة في المسجد وتخصيص الشريعة ميدان جهاد المرأة بحسن التبعل وهو مايلازم القرار في البيت.