«… الذي يضطهد فردا آخر هو أخوه في الانسانية لأنّ له رأيا يخالف رأيه, هو وحش. وهذا لعسر في إدراكه. فما بالك بالحكومة وبالقضاة وبالأمراء الذين ينكّلون بمن لايدينون بدينهم ».
فولتير/ من كتاب “القاموس الفلسفي”
يعسر على الإنسان العربي وهو يخضع إلى أَلف قيدٍ وقيد على حريّته، أن يعبّر عن رأيه أو معتقده المختلف عن السائد دون خوف ووجل من ردّة فعل المجتمع، التي قد تكون مدوّية بقوّة بركان ينفجر، حتّى في نطاق الأسرة الضيّق، بما ينسجم مع ما يعبّر عنه بالعقل المجتمعي أو الأنا الأعلى، الرامز في حضارتنا إلى هُويَّة المجتمع العربي والإسلاميوذاكرته ومعتقده وثقافته، المنفعلة والمتأثرة بتاريخ التخلّف الذي عاشه ويعيشه هذا المجتمع المثقل بإرث تشريعاتهي اليوم خارج سياقاتها الموضوعيّة و تقاليد لا تنسجم مع روح العصر وعادات سيّئة وترّهات فظيعة، جاء بها شيوخ السلاطين الذين يتوهّمون النطق باسم الدين الذي لا ناطق رسمي باسمه، فيما هم يروّجون لتخاريف، طوّقت رقابنا وعقلت عقولنا وحجّرت علينا التفكير الحرّ وعصفت بالمجتمع العربي وتعسّفت عليه بما أعاقالأناو ضمن أسترقاقها. لذلكفإنّ قضيّة تحرير عقل الإنسان العربي المكبَّل بالأَغلالٍ، تعتبر ذات أولويّة قصوى لينطلق من عقاله فيفكّر ويعبّر ويبدع ويحقّق نصيبه من التقدّم في العلم والفكر والأدب والفنون، في سياق ما يسمّى بالصراعَ بين العقل الفاعل والعقل المنفعل. وحتّى لا يبقى العقل العربي موسوما على الدوام بالعقل المنفعل لا الفاعل.وهيسمةتكاد تكون وصمة عار-مزمنة- في جبين أجيال عديدة من أجيال العرب منذ نكبة سقوط الأندلس إلى اليوم.
وعلى نحو ما قال فولتير عن التعصّب من أنّه« مرض متجذّر في أعماق الشعب الفرنسي، وفي أعماق عائلته الشخصيّة وطائفته الكاثوليكية بالذات»، فإنّي أزعم، رغم ما قيل ويقال وما كتب في موروثنا الثقافي والدينيمن أنّ مجتمعنا متسامح، أنّه -بالقطع- ليس كذلك. فلو كان مجتمعنا أو عقلنا المجتمعي بالصورة التي يروّج لها -زورا و زيفا-لما صودر الرأي المخالف وحورب المعتقد المغايرواضطهد أصحابهفي ظروف مأساويّة شديدة الفظاعة كما حدث للحلّاج ومحي الدين بن عربي وغيرهما. بما شكّل عائقا كبيرا ومزمناأمامبلوغ حركيّة فكريّة نشيطة مثلما هي قائمة في الغرب الذي لم يكن يختلف عن مجتمعنا في تشدّده وعدم تسامحه، لا سيّما فيما يتعلّق بالدين والمعتقدجرّاء التعصّب المذهبي البغيض. ولكنّ أعمال ونضالات فلاسفة كبار من طينة الفيلسوف الإنجليزيجون لوك القائل«الحرية هي ألا يتعرّض المرء للتقييد والعنف من الآخرين »والفيلسوف الفرنسيفرانسوا ماري أرويه شهرفولتيرالقائل « إنّنا جميعا مجبولون على الضعف والخطأ فليغفر كل منّا حماقة أخيه».لقد طرح هؤلاء الفيلسوفانوناقشا بجدّية مسألة التسامح بما يمثّله من إشكاليّةبين أفراد المجتمع فيما لو جدّ إختلاف فكري أوإيديولوجي ومذهبيبين أفراد المجتمع الواحد، بل حتّى داخل الأسرة الواحدة مثلما هو واقع الحال في قضيّة جون كالاس ( Jean Calas)،بما هي مظلمة سنعرض لها لاحقا. وقد أعطى طرحكلا الفيلسوفينواقتراحهماالحلول لموضوع التسامحثماره الطيّبة بعد مرور أجيال عديدة على عصرهما ومبحثهما في التسامح.وها هي اليوم تنعمبنتائجه شعوب العالم الغربي التي تنظر إلى التسامح كقيمة وفضيلة أخلاقيّة وإنسانيّة وإجتماعيّة بصرف النظر عن إرتباطها بالدين من عدمه.
فليس من قبيل الصدف أن يكتب جون لوك سنة1689 ثم فولتير سنة (1763) كتابين بنفس العنوان تقريبا وهو ” رسالة في التسامح” (Traité surla tolérance)، بل كان ذلك نتيجة حتميّة لتحوّلات عصري النهضة والتنوير ولتطوّر النزعة الإنسانيّة التي كرّستها أفكار و مبادئ فلاسفة عصر التنوير، ولا سيما الموسوعون منهم؛ديدرو(Diderot)وروسو ((Rousseauودالامبير(D’Alembert) وكوندياك(Condillac)وفولتير، والمرتكزة بالأساس على إعلاء مكانة العقل في مواجهة الفكر الغيبي. رغم انتقاد نيتشة–لاحقا- لهذه المكانة في سياق نقده للحداثة التي تقوم بالأساس على العقلانيّة.
لذلك فقد أكّد جون لوكصاحب مقولة«إن حريّتي تنتهي عندما تبدأ حريّة الآخرين»في” رسالته في التسامح” علىعدميّة التفكير الآحادي الذي ينفي الآخرولايقبلمحاورته.كما شدّد علىعبثيّة ودمويّةالتعصّب الديني المغلق على ذاته، ودعا إلى فهم الدين إعتمادا على العقل بما يسمحبتأسيس مفهوم التسامح الديني الذي يستتبعه أن لا تكون الدولة لها دين بعينه. لأنّ من مفاعيل خلافذلكما يجدّ من إضطهاد معتنقي الأديان الأخرى والطوائف التي تمثّل الحلقة الأضعف صلب الدولة على نحوما يجري اليوم للشيعة في السعوديّة والبحرين واليمن وللسنّة والمسيحيين في لبنان وسوريا وللشيعة العرب في إيران بما يتماشى تماما مع مقولة توماس الأكويني « إن كان خصمنا لا يؤمن بالوحي المقدّس، فالوسيلة الوحيدة المقنعه لإثبات البنود الدينيّة ردّا على إعتراضاته هي القول أنّها ضد الدين». وهو ما يعني أنّنا على صواب ومخالفنا على خطأ، ولا يكون التسامح عندئذ عنوانا لأيّ فضيلة بل عنوانا للتنازل لمعتقدات الآخر.
و في سياق مقاربته لمفهوم التسامح الديني، دعا جون لوك، وهو أول من استخدم تاريخيّا مصطلح حقوق الإنسان،إلىتكريس مبدأ المساواة في الحقوق بين جميع الطوائف الدينية في زمن كانت فيه الحرب ضارية بين الكاثوليك والبروتستانت بماهي تعبير عن الحقد الذي يجمع بينهما على مدى التاريخ تماما كما هو حال الحقد والعداء و”الخصام الأخوي ” الذي لا ينتهي بين كلّ من السنّة والشيعة1من أجل أحداث غابرة تجاوزها التاريخ ولم يعد لها تأثير فعلي في حياتنا المزدحمة بالمشاغل المهمّة والأحداث والتحدّيات الكبيرة التي تختلف درجات خطورتها فيالمكان والزمان. ولكنّه الهوس بالحفر في الذاكرة والنبش في الماضي،شديد القتامة والدمويّة، لاستحضاره بدلا عن الحاضر. بما يعني الإنبتات عن العصروالإنصراف عنهنهائيّا والعيش خارج التاريخ أو في أحسن الاحوال في جوار مزبلة التاريخ التي تزكم الأنوف.
ودون الغوص -لضيق المجال- في التفاصيل الدقيقة لكتاب ”رسالة في التسامح” لجون لوك، الذي يعتبر بحقّ أهم فيلسوف تنويري في العصر الحديث،فإنّه يمكن أن نكتفي بالإشارةإلى بعض مقولاتهالتي من بينها أنّه« ليس لأي انسان سلطة في أن يفرض على إنسان آخر ما يجب عليه أن يؤمن به أو أن يفعله لأجل نجاة نفسه هو، لأنّ هذه المسألة شأن خاص ولا تعني أيّ انسان آخر. إن الله لم يمنح مثل هذه السلطة لأي انسان ولا لأيّة جماعة (…)».ولو طبّقت الكنيسة هذه المقولة لما كفّرت عالِم الفلك و والفيزيائي الإيطالي غاليلو غاليلي(1564 – 1642)، و لما اعتبرت مواطنهومعاصره الفيلسوف والشاعر وعالم الفلكجيوردانو برونو (1548-1600)Giordano Brunoمهرطقا مكابراو سجنته ثمّقطعت لسانه وأحرقته حيّا بتهمةالإرتداد عن المسيحيّةوالكفرلمجرّد تأكيده على لا نهائيّة الكون وعلى أنّ المسيح إنّما هو “دجّال ذكي” أو “ساحر ماهر” (Mage habile).
ويضيف جون لوك لمزيد تأكيد المعنى السابق أنّ« خلاص النفوس من شأن الله وحده…ثم ان الله لم يفوّض أحدا في أن يفرض على أي انسان دينا معيّنا… وأن قوّة الدين الحقّ كامنة في اقتناع العقل، أي كامنة في باطن الانسان». ولكن -للأسف الشديد- هذا هو عكس ما يحدث اليوم في سوريا بعد مرور قرون على اقتناع الغرب بوجاهة هذا القول. حيث أبلغنيالصديق الصحفي الفرنسي من أصل لبناني روني نابا René Naba))،عبرمقال2 له تفضّل بإرسال نسخة منه لي، أنّ 18 قرية درزيّة سوريّة أرغمت ، في خضمّ الثورة السوريّة المسلّحة، على أن تتحوّل إلى “اعتناق الوهابيّة”. وهو ما لا يمكن القبول به مطلقا.لأنّ حمل النّاس على الإيمان بالقوّة بعكس ما يعتقدون إنّما هو إرهاب ديني،لا يمكن أن يجعلهم فيإعماق ضمائرهم مخلصين له مهما كان حجم الترغيب والترهيب. ومن هذا المنطلق فقد أكّد جون لوك على أن حريّة الضمير هي حقّ طبيعي لكلّ انسان. ولعلّه من المفارقات اليوم أنّ السجال لم يحسم بعد في المجتمع المدني التونسي حتّى بعد التصديق على الفصول المتعلّقةبحريّة الضمير و تجريم التكفيرضمن الدستور الجديد رغم ثوريته وريادته و تقدّمه على جميع الدساتير العربيّة.باعتباره-رغم هناته- قد حقّق نقلة نوعيّة في مجال تثبيت قيم الجمهوريّة، و تأسيس دولة الحقّ و القانون العصريّة،وتكريس الحقوق والحرّيات الأساسيّة العامّة منها والفرديّة، وضمان استقلاليّة عديد الهيئات القضائيّة والإعلاميّة والإنتخابيّة والحقوقيّة ونحوها عن الدولة، بما يستجيب للمعايير الدوليّة وينسجم مع القيم الكونيّة وأسس الدولة المدنيّة المعاصرة.
وأمّا فولتير،أحدرواد العقلانيّة والتنوير، المعروف بدفاعه عن قيمة التسامحبفضل مقولته الشهيرة « إنّي أخالفك رأيك ولكنّي أدافع حتّى الموت عن حقّك في إبدائه»، فمعلوم لدى دارسيه أنّهركّزأغلب معاركه الفكريّة على تكريس هذه القيمة النبيلة .التيطالما قرنها بحريّة العقيدة وبحريّة التعبير في آن معا.وقد سعى فولتير بصدقإلى إشاعة روح وثقافة التسامح،دون السقوط في السجالات العقيمة والمناقشات البيزنطيّة حول ما إذا كان العنف يسبق التسامح و الشرّ يسبق الخير أم العكس. بلحارب العنف والتعصّب الديني و الايديولوجي المقيت،وكان براغماتيّا في مقاربته لمفهوم التسامح من خلال دفاعه المستميت منذ أكثر من قرنين ونصف عن قضيّة جان كالاس ( Jean Calas)، المنتمي إلى مذهب الأقليّة البروتستانتية والذي أتّهم زورا بقتل إبنه لوي كالاس (Louis Calas) بوحشيّة وبشاعةلمجرّد إعتناقه للمذهب الكاثوليكي المخالف لمذهب العائلةالبروتستانتي فيما هو بريء تماما من ذلك. إلّا انّه أعدم رغما عن ذلك بتسرّع مثير للريبة والإستغرابودون احترام للإجراءات القانونيّة مثلما يحدث اليوم-بعد قرون- في أغلب الدول العربيّة التي لا تزال تفتقر لسلطة قضائيّة مستقلّة حقّا. وقد تبنّىفولتير هذه القضيّةبعد أن سجّل الإخلالات التي رافقتها منذ انطلاقها،فدافع عنها بشراسةوإصرار لرفع الظلم عن صاحبهاولو بعد مصرعه.حتّى أنّه أفرد لها كتابهالموسوم ”رسالة في التسامح”.و هي بالقطعإحدى روائع الفكر التنويري الفرنسي المنحاز إلى الحقّ أينما كان، والمؤسّس لمفهوم المواطنة وحقوق الإنسان. وجاءدفاع فولتير على رجل بروتستانتي من الأقلّية رغم أنّه يتبع مذهب الأغلبيّة الكاثوليكي بحكم الانتماء العائلي.بل ورغم أنّه مفكّرلاديني (déiste)، يؤمن بالله ولا يؤمن بأيّ دين. وهو دليل،لا يرقى إليه الشكّ، على عظمة هذا المفكر الحرّ، الذيينتصر للمذهب المعاديلمذهبه “المفترض”عندما يكون على حقّ،بدل انتصاره لعصبيّته الطائفية عندما تكون على باطل. وبهذا المعنى،فهو لا ينصر أخاه ،ظالما أو مظلوما وفي كلّ الأحوال، مثلما هو سلوك النّاس في ربوع العرب والمسلمين رغم ما ورد في القرآن في خلاف ذلك.
وقد استهلّ فولتير رسالته في التسامح بالحديث مطوّلا عن مصرع جان كالاسجرّاءسيادة التعصّب الديني المذهبيالذي يثير في نفسه الاشمئزاز والقرف ، مستغلّا هذه الواقعة الفظيعة ليقف بحزم ضدّ كل المجازر التي إرتكبها الكاثوليك في حقّ البروتستانت في أكثر من مكان من أوروبّا،مندّدا بها بصوت مرتفع يعلو على كلّ الأصوات دونه،و متوجّهاللأصوليين المتعصّبين،المنتهجينللعنفكوسيلةللدفاععنالدين أو المذهببالقول «فإنشئتمأنتتشبّهوابالمسيح،فكونواشهداءلاجلّادين».فيا له من قول رائع، إذ لو استوعب الوهابيون، الطارئون عن الإسلام،دلالاتهالإنسانيّةالنبيلة، لما وجدت حركات على شاكلة “القاعدة” ولا “النصرة” ولا “داعش”، ليس لها من مهمّة غير البطش بالإنسان أينما كان.
ويستعرض فولتير تفاصيل كافة الأطوار الغريبة للمحاكمة المستعجلة للمتّهم جان كالاس، مشكّكا في القضاء والقضاة،بلومستغربا بشدةّمن اضطهاد الانسان للانسان بسبب عقيدته أو رأيه، ومعتبرا أنّ التعصّب مخالفلجوهر وروح الديانات جميعا. وهو موقف ينمّ عن إحترام فولتير لكل الديانات رغم عدم إيمانه بها مطلقا. وفي ذلك إشارة إلى أنّه متسامح إزاءها ولا يعتبرها شرّا مطلقا. كما انّه لا يعتبر نفسه على صواب فيما الآخرون على خطأ،بما يستدعي تكفيرهم و هدر دمائهم بالنتيجة.وفي هذا السياق فقد عبّر فولتيرعن إعجابهبالنموذجالهولنديوالإنجليزي،حيثيسود التعايش في كنفالسلام بين مختلف الأديانوالمذاهب بخلاف ما هو حال فرنسا أنذاك.
وبعد رحلة شيّقة عبر التفاصيل المثيرة للقضيّة موضوع الكتاببما آل إلىإعادة محاكمة جان كالاس الذي ينتصر بعد موته(à titre posthume)؛ حيث أنصفتهالعدالة فبرّأته، في نهاية المطاف، بفضل الجهود المضنية المبذولة التييعود منها لفولتير النصيب الأوفر.وبذلك و إضافة إلى ما سبق، فإنّ فولتير يعتبر مثقّفا عضويّا بامتياز، لأنّه يعايش قضاياالمجتمعالمدني معايشة لصيقة،وفق مفهومالمثقّفالعضوي، الذي سيحدّده المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي بعد عدّة عقود من عصر فولتير.
(1)أنظر مقالي على النتحول هذا الموضوع بعنوانLa querelle fratricide sans fin entre Sunnites et Chiites
(2) أنظر مقال René Naba الصادر في 17 يناير 2014 في موقعه En Point de Mire بعنوانLes deux François et la chrétientéd’Orient/Conversion forcée au wahhabisme de 18 villages druzes de Syrie