23 ديسمبر، 2024 3:38 ص

“رسائل من القدس وإليها” لون أدبيّ جديد لتأريخ السيرة الذاتيّة

“رسائل من القدس وإليها” لون أدبيّ جديد لتأريخ السيرة الذاتيّة

كتاب رسائل من القدس وإليها، من تأليف الكاتبين المقدسيّين جميل السلحوت وصباح بشير، الصادر عن مكتبة كلّ شيء الحيفاويّة، حزيران 2022، يقع الكتاب الذي يحمل غلافه الأول لوحة للفنّان التشكيليّ محمد نصرالله، ومنتجه وأخرجه شربل إلياس، في 182 صفحة من الحجم المتوسط.

يرسل الرسالة الأولى الكاتب جميل السلحوت في تاريخ2010/4/11، وذلك بعد التقائه بصباح أوّل مرّة في ندوة اليوم السابع المقدسيّة. أمّا الرسالة الأخيرة فتنهيها الكاتبة صباح بشير في تاريخ 2021/12/31.

فإذا ما تأمّلنا تاريخ بداية الرسائل وانتهائها، نجد أنّها امتدّت إحدى عشرة سنة، تطرّق فيها الكاتبان للحديث عن مواضيع عديدة تؤرّق الكاتبين، فنجدهما يتبادلان الآراء والأفكار في هذه القضايا، ويحاول كلّ منهما إعطاء اقتراحات للخروج من الأزمات التي يعاني منها مجتمعنا: أزمة ثقافيّة، سياسيّة، تربويّة، اقتصاديّة، أخلاقيّة، جماليّة وغيرها..

أثناء عرض هذه القضايا، يتحدّث كلّ كاتب عن جوانب مضيئة في حياته: مؤلفات وكتب، سفر وتجوال في العالم، وصف الأمكنة وتأثيرها على النفس وإغناء تجربة كلّ كاتب الفكريّة والأدبيّة والثقافيّة.

من خلال هذه الرسائل عرفنا الكثير عن هذين الكاتبين: آراؤهما، رؤاهما الفكريّة والأدبيّة، آمالهما وأحلامهما. ولنبدأ أوّلًا بالكاتب جميل السلحوت. فمن خلال رسائله اتضحت لنا رؤاه الفلسفيّة والفكريّة والعقائديّة، فنجده إنسانا تنويريّا، يؤمن بالعلم والمنطق والعقل، يحارب الجهل والتخلّف و ثقافة الهبل كما أسماها في كتابه” ثقافة الهبل وتقديس الجهل” من إيمان بالمشعوذين والسحرة، وقتل النّساء على ما يسمّى شرف العائلة، إهانة المرأة وضربها وعدم السماح لها باختيار شريك حياتها( ص 83).ثم يتطرّق إلى وضع التعليم المزري وعدم اهتمام أكثريّة أولياء أمور الطلّاب بتربية ومتابعة أبنائهم خصوصا في مرحلتيّ الطفولة والمراهقة، فتحدّث في هذا السياق عن طفولته التي كتب عنها في كتابه” أشواك البراري-طفولتي سيرة ذاتيّة” حيث عانى من طفولة قاسية وعدم اهتمام أهله به، ثمّ اعتقاله عام 1969 وتعرّضه لتعذيب قاسٍ أورثه انزلاقا غضروفيّا في الرقبة وفي أسفل العمود الفقريّ مع تقرّحات في المعدة والقولون. ومع ذلك لم يفقد حلمه وإصراره على تكملة تعليمه الجامعيّ، فالتحق بجامعة بيروت العربيّة انتسابا ودرس اللّغة العربيّة.( ص 85). وتابع مشواره الأدبيّ؛ ليكتب عن عيوب مجتمعه محاولا تسليط الضوء عليها، مبديا رأيه فيها ومحاولا تقديم النصائح للشّباب للتخلّص من هذه الآفات.

كما يتعرّض الكاتب جميل السلحوت للحديث عن القدس والمحاولات لتهويدها وتهويد حيّ الشيخ جرّاح وحصارها وعزلها عن سائر مناطق فلسطين، كما يتحدّث عن منطقة براري بلدته السواحرة القريبة من القدس، وعن خسارة أهله وسائر سكّان بلدته لهذه الأرض التي صادرتها إسرائيل، وبنت عليها مستوطنة معاليه أدوميم، وهكذا خسر الفلسطينيّون مصدر رزقهم، حيث اشتغلوا بزراعة الأرض وتربية المواشي (ص 102) .

وللرحلات حيّز هامّ في هذا الكتاب، فالكاتب جميل السلحوت يتحدّث عن رحلاته الكثيرة إلى أمريكا، حيث يسكن فيها عدد من إخوته وابنه قيس، وقد تعرفنا على أماكن سياحيّة جميلة في أمريكا، ومنها شلّالات نياغرا من خلال ما وصفه في رسالته للكاتبة صباح. ويشير أيضا إلى تأليفه لكتاب “كنت هناك” الصادر عام 2012، يتحدّث فيه عمّا شاهده في الأردنّ، سوريا، لبنان، مصر، السعوديّةـ روسيا وأمريكا. كذلك يتعرّض لحياة الشعب الأمريكيّ الذي لا تهمّه السياسة، مع ذلك فهو يحترم حكومته.

ومن اللّافت في هذا الكتاب ما وصف فيه السلحوت اليهود من أنّهم عرب يهود، عاشوا في الدّولة الاسلاميّة معزّزين مكرّمين:” حتى ظهرت الحركة الصهيونيّة وضلّلتهم وسلختهم عن عروبتهم، وهذا يؤكّد أن الصراع في فلسطين بشكل خاصّ وفي الشرق الأوسط بشكل عامّ ليس صراعا دينيّا، وإن ما هو صراع مع الحركة الصهيونيّة كحركة استعماريّة، اختارت أن تعادي شعوب المنطقة وإحلال مهاجرين يهود مكان الشعب الفلسطينيّ بعد الاستيلاء على أرضه”. (ص 150).

ومن ظواهر تكريس الجهل ما يجري من هدم للمؤسسة التّعليميّة مثل قانون يمنع معاقبة تلاميذ المدارس، وهذا أمر جيّد وفق رأي السلحوت، لكنّ المشكلة تكمن في عدم وضع قوانين أخرى تضبط فيها التّلاميذ، وتحمي المؤسسات التّعليميّة والعاملين فيها، ممّا أدّى ذلك إلى اعتداء على المعلّمين لفظيّا وجسديّا. وقد شمل الاعتداء أيضا الحرم الجامعيّ، فقُتل طلّاب لأتفه الأسباب، ولم تنج المستشفيات من الاعتداء. وهنا يطرح الكاتب سؤالا مهمّا: هل نحن نعيش مرحلة ضياع اجتماعيّ تتصاحب ومرحلة الضّياع السياسيّ؟(ص 158-159).

ويرى السلحوت أنّ كل ذلك إضافة إلى انتشار ظاهرة حمل السلاح، وتجارة المخدّرات، وقتل النساء تحت ما يسمّى “شرف العائلة”، يدلّ أنّنا نعيش خللا اجتماعيّا، فنحن بحاجة إلى ثورة على التّقاليد البالية التي تشكّل رافدا لهزائمنا المتلاحقة، وهذا لن يتأتّى إلّا بالتعليم الصحيح، ومواكبة العصر والعلوم الحديثة.( ص 159-160).

وتردّ الكاتبة صباح في رسائل متتابعة على رسائل السلحوت، فتعرّف بذلك على جزء كبير من سيرتها الذاتيّة، بدءا من ولادتها في القدس، طفولتها وتشجيع والدها لها على القراءة، حتى تعليمها وزواجها وعملها في الصّحافة والإعلام في مجلّة نسويّة تعنى بشؤون المرأة، ثم انتقلت للعيش في دولة الإمارات العربية المتحدة، استقرّت في أبو ظبي، وبعض الدول الخليجيّة. سافرت مرارا إلى الأردنّ وتركيا، ثمّ انتقلت للعيش والاستقرار في لندن، وزارت بعض الدول الأوروبيّة، ثمّ انتقلت إلى تونس وزارت دول المغرب العربيّ، وحاليّا تعيش في حيفا.(ص 98).

هذا التنقّل المتكرّر وعدم الاستقرار في مكان واحد ألقى بظلاله وثقله على الكاتبة صباح، فوصفت علاقتها بالأمكنة:” عدم الاستقرار في مكان واحد جعلني أفقد الكثير من ممتلكاتي وأغراضي، خصوصا الكتب. فما أن تعيد ترتيب حياتك لتعيش في مكان وترتبط به، ثمّ تجد نفسك مضطرّا لمفارقته”(ص 96). ومع ذلك فقد استفادت صباح من تجربتها هذه فتقول في ذلك:” تعلّمت الكثير في فضاءات المدن، فالأماكن التي مررت بها كثيرة، وكلّها ساهمت في تكوين شخصيّتي، غير أن الوطن مقرّ النشأة الأولى ومرتع الصبا هو من يسكنني”.(ص 98).

وفي رسائلها للسلحوت تتعرّض الكاتبة صباح إلى عدّة مواضيع اجتماعيّة ثقافيّة تعليميّة تربويّة تؤرّقها منها مثلا: التمسّك ببعض العادات البالية التي تعيق تقدّمنا، كما أن المناهج التربويّة التعليميّة لم تتمكّن حتى الآن من تقديم ما يتوافق واحتياجات الواقع، فهي لا تعمل على بناء شخصيّة قياديّة ناقدة عميقة ومفكّرة ومؤثّرة. فالتّعليم في بلادنا هو عمليّة تلقينيّة لا تتناسب مع النموّ والتطوّر الحاصل في تفكير النشء، كذلك دور المؤسسات الثقافيّة والإعلاميّة المتخاذلة والجامعات الغائبة أو المغيّبة عن البحث العلميّ وتشجيع القيادات الشابّة”(ص 107). وقد ضاعفت الكورونا من الهوّة بين الطلّاب أنفسهم وبينهم وبين المعلّمين، وهي ترى أنّه لم يتمّ إعداد المعلّمين بطرق تدريسيّة حديثة تتماشى مع العصر وخاصّة في فترة الكورونا والتعليم عن بعد.

كما تتعرّض الكاتبة صباح إلى دور الصحافة العربيّة، فترى أنّ الثقافة تعيش حالة من الاغتراب، فحضورها باهت في صحف ومواقع إلكترونيّة ذات طبيعة إخباريّة لا تؤسس لأهداف ثقافيّة، كما أنّ تمثيل المرأة في الإعلام ما زال سلبيّا، فهي تصوّر كسلعة أو أداة جذب للتّسويق ويتمّ تجاهل ثقافتها وطموحاتها أو عملها وإبداعاتها.(ص 114).

تنتقد الكاتبة صباح الفكر الشرقيّ وتقارنه بالفكر الغربيّ الذي يحترم الإنسان كفرد حرّ مستقلّ بذاته، لديه كلّ الطاقات والامكانيات الفكريّة الخلّاقة، نقيض الثقافة الشرقيّة التي تؤكّد على التبعيّة ومسؤوليّة الفرد تجاه المجموعة، وإكراهه على تنفيذ سياسة القطيع دون الاهتمام بتعليمه وتهذيبه، وإكسابه قيم المواطنة والانتماء(ص 69-70).

ولحيفا والقدس مكانة خاصّة في قلب الكاتبة صباح، لذا تخصّ كل مدينة بنصّ جميل شاعريّ تصف فيه جمال المدينة، ففي وصفها للغروب في حيفا تقول:” وحده ذلك الشعور من يعيد إليّ روحي وسط الزّحام وفتنة الغروب، سحر الألوان ورائحة البحر، والبهجة التي تعوم حولي في قلب الماء، انسكابه ارتطامه المشرّع على كلّ شيء، يشعل ذلك في داخلي الحنين والأحاسيس الكثيرة كما يبعث فيّ الألفة والشجن وكثير من الذّكريات المخبّأة عندها أتذكّر قول أمّي” ضعي أمنياتك وقت الغروب لعلّها تشرق يوما ما”.(ص 147).

وفي وصفٍ شاعريّ جميل آخر لحيفا تكتب صباح بشير ما يلي:” ولقدسيّة المكان وبعد أن يهدأ الموج تخشع عين الشّمس، تمشي على استحياء وتغيب في خجل، تتوارى حتّى الصباح مبتعدة، آخذة معها النور والضّياء، يسدل اللّيل ستائره تتلألأ النجوم حينها أمعن النّظر في أكوان لا يراها أحد سواي، أكوان من الورد والزّهر”.(ص 148).

وفي وصفها للقدس تقول”: في كلّ مرّة أزورها أكتشف بأنّي ما زلت أقيم فيها، ولم أغادر، فحين ألتقيها يكاد قلبي يترجّل من صدري، ويقفز ليدوس ترابها وروحي ترفرف من حولي مسرعة لتعانق فضاءها، تأخذني الرّهبة أمام هيبتها وتلامس حواسّي رائحتها، وأمام أسوارها العتيقة تلك القابعة في قلب التّاريخ ، تهدأ روحي وأسكن كطفل غفا في حضن أمّه”.(ص 153)

يشترك الكاتبان في حبّهما للقراءة والكتابة. يقول الكاتب جميل السلحوت في ذلك، أنّه حين كان طفلا كان يذهب إلى مكتبة في القدس مشيا على الأقدام ليشتري كتابا، وقد رافقه هذا الشّغف للقراءة والكتابة حتّى يومه هذا.(ص23).

تفصح الكاتبة صباح عن حبّها الشديد للكتابة، فهي حلمها الأوّل، وقد شرعت في كتابة رواية ومجموعة قصصيّة للأطفال. فالكتابة بالنسبة لها:” شرفة الروح المنفتحة على السّماء وزيارة الرّؤى في ارتقائها إلى ما وراء السّمع والبصر، حيث العوالم الخفيّة المحفوفة بالمعرفة المستترة خلف حجب الغيم، شجى القلب وسرّ الفرح”.(ص 80). وتشير إلى أهميّة الحبّ بشكل عام في حياتنا: حبّ الوطن، حبّ الأم لأولادها، حبّ الأصدقاء والعائلة، حبّ النفس، فالحبّ كما تقول هو نكهة الحياة ومذاقها.(ص 78).

نلحظ في هذا الاستعراض الموجز لما ورد في الرّسائل المتبادلة بين الكاتبين، أنّهما تعرّضا لرؤاهما الفكريّة، الثقافيّة، الاجتماعيّة، السياسيّة والإنسانية، إضافةً لذكر محطّات هامّة في حياة كلّ واحد منهما: عمله، نشاطاته، إصداراته، قراءاته، رحلاته وتنقلاته في هذا العالم وما إلى ذلك.

من هنا أميل للاعتقاد أنّ هذه الرسائل هي لون فنيّ جديد من ألوان السّيرة الذاتيّة، إذ تميّزت السّيرة الذّاتيّة المعروفة لنا بالسّرد الذّاتي للكاتب عن نفسه بلسان المتكلّم أو الغائب، لكننا هنا نجد لونا جديدا، وهو فنّ كتابة السّيرة من خلال الرّسائل.

فهنيئا للكاتبين جميل السلحوت وصباح بشير على هذا الإبداع الجميل والتوثيق الهامّ لحياتيهما ولمجتمعهما، بلغة سليمة جميلة وسرد شائق.