صدر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في بيروت وعمان، كتاب “أكثر من حُب: رسائل محمود شقير وحزامة حبايب” ويقع الكتاب الذي صمّمت غلافه اللبنانيّة رشا حلاب، ويحمل رسمين للكاتبين شقير وحبايب في 254 صفحة من الحجم المتوسط.
معروف أنّ فنّ الرّسائل ليس جديدا في الثّقافة العربيّة، وإن كانت الرّسائل الأدبيّة ليست واسعة الإنتشار في الأدب العربي. لكنّها تبقى موجودة، فعلى سبيل المثال في العصر الحديث هناك رسائل جبران خليل جبران ومي زيادة، غسان كنفاني وغادة السمان، أنسي الحاج وغادة السمان، خليل حاوي ونازلي حمادة.
وقبل الخوض في كتاب الأديبين المتميّزين محمود شقير وحزامة حبايب لا بدّ من التّنويه بأنّنا أمام أديبين لهما بصماتهما الظّاهرة على الأدب العربيّ، فمحمود شقير الذي يصغر الرّاحل محمود درويش بيومين، لا يقلّ عن درويش في عالم الإبداع، وإذا أبدع درويش في الشّعر، فإنّ شقير أبدع في عالم السّرد، وهو أحد روّاد ومؤسّسي فنّ القصّة القصيرة جدّا، عدا عن كتاباته في فنون أخرى منها: القصّة القصيرة، الرّواية، رواية الفتيان، أدب الرّحلات، أدب السّيرة، قصص الأطفال، المسرحيّة، اليوميّات، عدا عن كتاباته لمسلسلات تلفزيونيّة…إلخ. وأزعم أنّني قرأت مؤلّفات شقير كلّها.
أمّا الأديبة حزامة حبايب فقد قرأت لها مجموعة قصصيّة واحدة، فكما يعرف الجميع فقد عشنا حصارا ثقافيّا جائرا فرضه علينا المحتل قبل أن تظهر الشّبكة العنكبوتيّة وعالم الإنترنت، لكنّني سمعت إطراء لرقيّها الأدبيّ أكثر من مرّة من محمود شقير.
وعودة إلى كتاب الرّسائل الذي نحن بصدده، فقد توقّفت عند عنوان الكتاب، “أكثر من حبّ” فما هو القريب إلى العقل وإلى القلب أكثر من الحبّ؟
وللإجابة على هذا السّؤال، سنجد أنفسنا في فنون الأدب الرّاقي، الذي تبادله رجل وامرأة، هما أديبان مرموقان، التقيا على منابع الأدب وعلى صفحات الصّحف والمجلّات أكثر من لقاءاتهما وجها لوجه، فالأدب الرّاقي هو الذي يجمعهما، ولا بدّ هنا من التّنويه لقضيّتين هامّتين كي لا يذهب من لا يعرفهما، أو لم يقرأ رسائلهما إلى مفهوم الحبّ والعشق بين رجل وامرأة، فمحمود شقير يعيش في جبل المكبّر أحد ضواحي القدس الشّريف، بينما تعيش حزامة حبايب في أبو ظبي في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، يضاف إلى ذلك الفارق في العمر بينهما والذي يصل إلى ما يقارب الثّلاثين عاما، ومن خلال الرّسائل يتبيّن لنا أنّ حزامة حبايب التي ولدت وشبّت في الكويت، وخرجت من الكويت بعد غزو العراق لهذا البلد، وأنّها أوّل ما سمعت بمحمود شقير كان من خلال كاتب تعرفه أشاد بتميّز محمود شقير ككاتب قصّة، وأنّ أوّل ما قرأت لمحمود شقير هو مجموعة قصص قصيرة جدّا هي”طقوس للمرأة الشّقيّة”.
وواضح من خلال الرّسائل أنّ كلا الكاتبين معجب بالنّتاج الأدبي لبعضهما البعض، وقد تشاركا في إبداء كلّ منهما لرأيه بصدق متناه دون مجاملة لإبداع زميله.
فالصّدق في هذه الرّسائل يضفي عليها جماليّات لا يمكن القفز عنها، وواضح للقارئ أسلوب السّرد القصصي واللغة الإنسيابيّة الجميلة. وقد شكا كلّ منهما للآخر همومه، وإن كان كلّ منهما يحمل الهمّ الوطنيّ، فحزامة حبايب هي الأخرى فلسطينيّة، تحمل الهمّ الفلسطينيّ رغم أنّها تعيش في الشّتات، بينما محمود شقير يعيش على ثرى القدس رغم معاناته من الأسر والإبعاد وعسف المحتل. وواضح أنّ الكاتبين تبادلا هموم الكتابة، وأنّ كلّا منهما يحرص على التميّز والإبداع رغم مكابدات الحياة التي تنتهي.
ويلاحظ في الرّسائل أنّ الأديب شقير التزم الجدّيّة في رسائله، بينما تحلّت بعض رسائل الأديبة حبايب بالسّخرية والجرأة. وكلا الأديبين تكلّما عن حبّهما للعزلة، فالأديب شقير كتب أكثر من مرّة عن ضيقه من بعض العادات والتّقاليد الإجتماعيّة في بيئته التي تستنزف وقته وأعصابه، حتّى أنّه فكّر باستئجار بيت في عمّان أو القاهرة ليقضي به عدّة أشهر كلّ عام يتفرّغ فيها للكتابة، وشقير الذي نتمنى له الصّحّة الجيّدة والعمر المديد صاحب مشروع ثقافيّ، وهو صاحب مقولة شهيرة سمعها منه بعض أصدقائه-وأنا منهم-” ما ظلّش وقت”! كما أنّ الأديبة حبايب أيضا تكلّمت عن رغبتها في العزلة.
ولم تقتصر العلاقة بين الأديبين على تبادل الرّسائل فقط، بل تعدّتها إلى تبادل الكتب والأسطوانات الموسيقيّة، وقد تحدّثا عن شغفهما بالموسيقى، وعن حبّهما للسّفر والتّرحال، وتضمّنت رسائلهما مقاطع من أدب الرّحلات.
ورغم هذا فلكلّ منهما همومه الخاصّة التي تؤرّقه، فالأديب شقير تكلّم عن ابنته “أمينة” التي تعاني من ضمور في العضلات، وعن حفيده الذي يعاني من إعاقة عقليّة بسبب خطأ طبّيّ عند ولادته، بينما تحدّثت الأديبة حبايب عن أخيها الذي عانى من الإكتئاب، وعن معاناة شقيقتها المطلّقة ومعاناة طفلتيها أيضا.
ويبلغ مدى حرص كلّ منهما على الآخر من خلال ما كتباه عن تقديم كلّ منهما زميله للتّرجمة أو للمشاركة في لقاءات أدبية في دول أخرى.
وسيلاحظ قارئ هذه الرّسائل أنّ الأديبين المتميّزين شقير وحبايب، قد أبديا أكثر من مرّة تخوّفهما من الفشل، وكيف أنّ كلّ واحد منهما -خصوصا شقير – يراجع كتبه مرّات كثيرة قبل أن يدفعها إلى دور النّشر، وبالتّأكيد فإنّ هذا الخوف يأتي من باب الحرص على النّجاح والتميّز.
يبقى أن نقول أنّ هذه العجالة لا تغني بأيّ شكل من الأشكال عن قراءة الرّسائل، التي تعتبر بحق وبعيدا عن المجاملة إضافة نوعيّة للمكتبة العربيّة.