ترددت كثيرا قبل أن أشرع في تحرير هذه السطور..لاعتبارات متعددة…فمنها ما هو ذاتي..كوني وفية للرمزية في طرح القضايا المتشعبة، لما للمباشر من الحدة والقسوة على المعنى.. ومنها ما هو موضوعي، يكمن في موقفي من القضية نفسها..أضحت أقدم قضية عرفتها الإنسانية..أثقلت كاهل أربعين مليون نسمة..لمدة خمسة وأربعين سنة..استنزفت قوى الجارة بدون فائدة..حتى أصبحت للقضية تداعياتها تثير الاشمئزاز لدي..بخيوطها العنكبوتية..وتطوراتها المحبطة..في متاهة لولبية لا منتهية..كان الخاسر الأكبر فيها هو أنا والجارة وأنت..وكل من يعيش حولي..تقشف ما بعده تقشف تسبب في أزمة كل المغاربة..لا أدري ما كنتم تعتقدونه آنذاك..وأنتم تتوصلون بالإعانات الكثيرة..أما نحن فكنا نظن أن في تقشفنا تآزر لإخواننا هناك..حتى أصبحتم أكثر غنى منا..وأصبحنا أكثر عوزا وتألما..أخذت قضيتكم المفتعلة كل الاهتمام..وأصبحت قضيتنا العادلة في خبر كان..اللهم لا حسد ولكن..واجب الاعتراف عليك واجب..كما واجب التذكير علي أمانة..لقد أدرت ظهري لهذه القضية لسنوات عديدة..نظرا للإحباط وعدم وضوح الرؤيا..إلا أن خروجك الإعلامي استفزني كثيرا يا رفيقة..مما دفعني إلى التساؤل عن جدوى حسن الجوار والتضحية..
حتى تكون قضيتك عادلة..ويكون خطابك صادقا منسجما..أدعوك إلى تدقيق بسيط في المعاني..فإما إضفاء تعديل على لغة قضيتك المشروخة..وإما تغيير بوصلتك يا رفيقة..إنها فرصتك الأخيرة لتردي الجميل لمن أحسن إليك البارحة..حديثك عن حق تقرير المصير وتصفية الاستعمار..مناهضة الاحتلال وتحرير الشعوب من الاضطهاد..خطاب أتقنه “تشي كيفارا” حتى أصبح زعيما للمقولة..بالنسبة لك أنت، فتحديد المواقف والمفاهيم أمر ضروري للغاية..لرفع اللبس وتقريبه للجماهير..تقرير مصير من؟ مصيري أم مصيرك؟ مصير الأرض للجارة؟ أم مصير الإنسان على الأرض؟..تحرير الأرض من الاحتلال أم تحرير الشعب من الغبن؟ مهما بدت الرمال ثمينة، فالإنسان يجب أن يبقى مقدسا..هكذا تبدو لي الأمور من الجبال..
وحتى لا تكون قضيتك مجرد صفقة..يكون فيها الإنسان رقما في المعادلة..قاطع الطريق في الكراكات..مركونا على الرصيف في المخيمات..ينتظر الإعانات قد تأتي أو لا تأتي من السماء..وأنت تعرفين جيدا أنه..ما أقصر الحياة وما أقساها في العراء..حياة “اللاجئين” بدون مأوى تشبه الجحيم إلى حد كبير..دعيني أقول لك إذا كنت تسألين عن السجون فهي ملئ بالصناديد..ذنبهم الوحيد أنهم طالبوا بالعيش الكريم..وإذا كنت تنوين إفراغ خزينة الشعب..فهي لم تعد تستحمل أخطاء المجانين..ومتى كان النضال نصيبه الاغتناء والعيش عالة على الغير..إذا كانت قضية الصحراء “الغربية” كما تفضلين أن تسمينها.. تاستهويك.. اطمئني، فإن ملف النزاع بين أيادي الأمم..فلا داعي للركوب على ملف ليس بمقدورك..دعيني أذكرك يا سيدتي، أن هناك قضايا أكبر تستدعي منك ومني الاهتمام..قضايا أعمق وأخطر لا تستحمل الانتظار..غير أنه من واجبي ان أذكرك بان ركوب هذا الغمار تنقصه امتيازات ستوكهولم..وقرع طبول البدائل..بعيد عن دولة الجنرالات وأحكام “الباييس”..إنه النضال الوطني الحقيقي يا سيدتي..أدعوك رسميا للانخراط فيه..هو تحرير بلادك من الفساد..ومناهضة الإفلات من العقاب..
جميل أن نقود ثورة الملك والشعب بكل ثبات..أن نحلم ونلحن وثيقة المطالبة بالاستقلال..إلا أن النضال الحقيقي هو تحرير الجسم الداخلي من الفساد..والاستقلال لن يجني ثماره إلا بالتحرر من جميع أشكال التمييز والاستغلال..ولن يتأتى ذلك إلا عبر المصالحة مع الذات..تتحدثين عن تقرير المصير وتصفية الاستعمار..لم أسمعك يوما تثيرين قضية تحرير سبتة ومليلية من أي احتلال..ولم أحس في نبرات صوتك بقدسية الإنسان..سآتيك في الخاتمة بالبرهان..
إذا كان ” للمستعمر” على حد تعبيرك أساليب كثيرة.. فالمناضل الحقيقي ما كان عليه أن يستجيب للإغراء..وطبيعة النضال لا تقبل التجزيء..جميل أن تدافعي عن المحتجزين هناك في الصحراء..ألا ترين أن في الجبال والهضاب كذلك محتجزون؟..ولا تعتبرين لاجئ قضية إلا من كان في تندوف ملقيا.. ولا ترين آلاف اللاجئين فروا من هنا..رحلوا قسرا عن بلادك ليس اختيارا..باحثين عن وطن يؤويهم..مع عدم فك الارتباط بإنسانيتهم..فشتان بين الاثنين..فلاجئ القضية في الشمال فضل الغربة والبرد القارس..على أن يموت موت الكلاب في الجبال..بينما لاجئ قضيتك، فقد فضل العيش في المخيمات..وما أدراك ما العيش في الأوحال..دعيني أقول لك سيدتي، أن قضيتك خاسرة من الوهلة الأولى..لعدم متانة بنائها..إذ ينقصها كثير من الذكاء والموضوعية..وأنت تعرفين جيدا أنها مكونات أساسية..لبناء أي كيان شرعي..تناولك الجزيء للقضية يثير الشكوك حول النوايا..كان بالأحرى عليك أن تترافعي لدى الجارة علها تزيد من كرمها وتحسن ضيافة “المحتجزين” على أراضيها..هي خمسة وأربعون سنة مضت..هل فعلا أحبت الجارة القضية..إذا كان الأمر كذلك لماذا لم تكسر الجدار بينها وبينك..ولماذا تمدك بالإبر دون الخيط؟..ما كان عليك يا سيدتي، أن تقبلي بتعويض عن النضال من مال دافعي الضرائب.. ومتى كانت المساومة عنوانا للنضال..النضال اختيار راقي ما بعده اختيار..أنت تعتبرين الأمر حقا وأنا أعتبره مقايضة..أنت ترينه شرفا وأنا أراه خيانة..أنت ترينه لاجئ قضية..وأنا أعتبره لاجئا بائسا..لا يعول عليه أبدا..من لا يقبل بالعيش الكريم لنفسه..كيف سيطالب به لغيره..من طلب التبعية من الغير..وفضل الاسترزاق باسم الأرض على حساب إنسانيته..لا يحق له المطالبة بالانفصال..من قبل هدايا النظام بالأمس..لا يجوز قلب الطاولات عليه..لا تنزعجي من حدة نبراتي..ما هكذا تبنى الأوطان يا سيدتي..(لنا عودة للموضوع).