21 مايو، 2024 11:40 م
Search
Close this search box.

رسائل الى صديق في المهجر : الرسالة / 15

Facebook
Twitter
LinkedIn

“من الحي اللاتيني  الى مونتمارتر ونوتردام …عالم من الثقافة والادب والفن “

صديقي العزيز رافد… طاب مساءك. ..
كما وعدتك في رسالتي الاخيرة ، أبعث اليك هذه الرسالة مستكملاً وصف رحلتي الى باريس التي لا يمكن أن أمُرُ عليها مروراً سريعاً ، بل آثرت التوقف عندها والتأمل في أصالة وعراقة وجمال أاماكنها ، ووصفها بما تستحق من وصف ، فجميع الاماكن التي زرتها في باريس لها ذكريات في النفس والخاطر.
 في أحد الصباحات الجميلة المشمسة ، ذهبنا الى مبنى جامعة السوربون (Sorbonne La) بباريس ، ذلك الصرح العلمي العريق ، هذه الجامعة التي تعدّ من أعرق وأرقى الجامعات في العالم والتي تأسست قبل حوالي  750 سنة بجهود روبير دي سوربون (Robert de Sorbon) المرشد الروحي للملك لويس التاسع ملك فرنسا في فترة القرون الوسطى ، حيث يضم مبنى السوربون التاريخي أربع جامعات عريقة . وبعد أن انتهينا من الزيارة ، جلسنا في مقهى يدعى “السوربون ” تناولنا فيه القهوة الباريسية قبل أن نتجه الى الحي اللاتيني المشهور والقديم والعريق في باريس الذي يحاذي هذا الفضاء العلمي الكبير . هذا الحي الذي يعّد مكان سكن للطلبة الذين يأتون إلى فرنسا من كل بلدان العالم للدراسة ، حيث يقيم عدد كبير منهم في هذا الحي الذي يضم العديد من الفنادق والمطاعم التي يرتادها الطلبة والسواح على حدٍ سواء . لذا فهو ملتقى سياسي واجتماعي وفكري ، بل وملتقى إنساني وحضاري متنوع يشكّل صورة اكثر تماساً للعلاقة بين الشرق والغرب.
بعد زيارتنا وتجولنا في السوربون ، حلّ وقت الظهيرة ، فذهبنا لتناول الغداء في أحد المطاعم المشهورة ذات المسحة التراثية التي تقدم الاسماك النهرية الطازجة ، وقد طلبنا من أحد العاملين في المطعم أن يلتقط لنا بعض الصور التذكارية تظهر واجهة المطعم أيضاً ، وحيث كنا متعبين من الجولة الصباحية ، كانت وجوهنا أكثر جدية ، خالية من البسمة لدى التقاط الصور ، فما كان من فتاة كانت تجلس مع شاب أمام طاولتنا ، إلا ونادت : ” الصورة بحاجة الى ابتسامة ” . حين سمعنا نداءها لم نبتسم فقط ، بل ضحكنا من ملء أشداقنا، فكانت الصورة الاجمل من بين الصور التي التقطناها طيلة اليوم. 
الحي اللاتيني ملىء بالمكتبات وذلك لحاجة الدارسين الى الكتب والمصادر العلمية ، مما أتاح لي فرصة نادرة لزيارة عدد من المكتبات الكبيرة التي تحوي أمهات الكتب وبخاصة الفرنسية الحديثة ، حيث اخترت منها ما كان باستطاعتي حمله معي لدى العودة الى بغداد ، وبشكلٍ خاص الكتب التي تعني بالسياسات الثقافية وكتب الانتخابات والديمقراطية.
 هذا الحي ممعن في العراقة ، فلقد كُتِبَ عنه الكثير من المقالات والروايات والقصص ، من بينها القصة الشهيرة لسهيل ادريس المعنونة ” الحي اللاتيني” . إن المتعة في زيارة هذا الحي ، بالاضافة الى الارتشاف من مناهل العلم والثقافة فيه ، هو مشاهدة الابنية القديمة والجلوس على مقاهيه الكثيرة المنتشرة على امتداد شوارعه حيث أغلبها مختارة عند أركان البنايات ، حيث جلسنا على الارائك الامامية لأحد المقاهي الجميلة ، وتناولنا القهوة المعدة بالطريقة الفرنسية . هذا الحي غالباً ما يزوره مشاهير المثقفين والفنانين والرسامين والمطربين العرب . وبينما كنا نرتشف القهوة ونحن نتبادل الحديث ونشاهد أمامنا عدد من من الرسامين يقومون برسم مناظر طبيعية غاية في الجمال بالالوان المائية ، مع تجمّع عددٍ غفير من الناس لمشاهدة براعتهم في الرسم ، إذ لاحظنا بين المشاهدين الفنان المصري المشهور محمود عبد العزيز الذي كان يتابع عمل الرسامين بلهفة واعجاب حتى انتهاءهم من اللوحات التي كانت بين أيديهم.
في المساء اصطحبنا  صديقنا وليد الى حي مونتمارتر حيث تجولنا في أزقته القديمة الضيقة،وبينما كنا نشاهد عدد من الرسامين يقومون برسم البورتريه لسواح جلسوا على رصيف مقابل أحد المقاهي حيث جلسنا لتناول الشاي لبعض الوقت ، تبادر الى ذهني حينها كبار الرسامين الفرنسيين أمثال رينوار، ومونتيه ، وروبنز ، وفان دايك وجان أونوريه فراجونار ، وجان انطوان واطو ، وبول سيزان ، كما استرجعت ذاكرتي قصيدة غادة السمان “أشهد على جنوني ” وهي تذكر فيها الحي اللاتيني وحي مونتمارتر ، بالقول :

” أشهد بالعصافير تطير من عينيك
الى قلبي
أشهد بقهوة الصباح معك
ذات فجر غابر في ” الحي اللاتيني ”
أشهد بالثلج
فوق تلة ” مونتمارتر ” و سلالمها
أشهد بأصابع الرسامين
الملطخة بالأصباغ و النيكوتين
و هم يرسموننا معا في ساحة ” التيرتر”

لقد كتب المؤرخون أن باريس تطورت كثيراً بعد انتهاء فترة القرون الوسطى ، سيما منذ بداية العصر الكلاسيكي إبان القرن السابع عشر وبداية العصر الرومانتيكي في القرن الثامن عشر – المعروف بـ “عصر الانوار”. لذا تجد مقاهي وأماكن اجتماعية في حي مونتمارتر مرّ على تأسيسها عدة قرون تعود الى تلك الفترات ، مما يجعلها جديرة بالزيارة والمشاهدة . 
وغير بعيد عن الاذهان ، أن من معالم هذه المدينة العريقة ، نهر السين الذي ينشطر الى فرعين يلتقيان فيما بعد ليكونان جزيرة ” إيل دو لا سيتي ” الواقعه بقلب النهر حيث نشأت مدينة باريس أصلاً في هذه الجزيرة التي تضم حالياً أكثر الاماكن السياحيه أهمية ، وفي مقدمتها كنيسة نوتردام التي سأحدثك عن زيارتنا لها في موضع آخر من هذه الرسالة ، علماً أن هنالك سبع وثلاثون جسراً في باريس منشأة فوق هذا النهر .
وعندما جلسنا مساءً في كافيه على ضفاف النهر جالت في خاطري قصيدة ” جسر ميرابو” للشاعر الفرنسي الشهير غيوم أبو لونينيير ، التي يقول فيها:

” تحت جسر ميرابو، يجري نهر السين
ويجري حبنا
أينبغي أن أتذكر
كان الفرح دائما يجيء بعد الألم
يأتي الليل يحين الوقت
تمضي الأيام
أبق .. لنبقَ يداً بيد، وجهاً لوجه
بينما تحت جسر أذرعنا، تمر
الموجة المرهقة من النظرات الأبدية..” .

في اليوم التالي ، ذهبنا الى كنيسة نوتردام (Notre Dame ) المشهورة ، والمسماة بالعربية  كنيسة (السيدة العذراء), بُنيت هذه الكنيسة في القرن الثالث عشر الميلادي , بدلاً من كنيسة نوتردام القديمة التي كانت قد بُنيت في القرن السادس الميلادي. الكنيسة مَبنية على الطراز القوطي           (Gothic Style) وبقبة ترتفع إلى ثلاث وثلاثون متراً ، مُدعمةّ بأقواس بدون أعمدة ساندة في الوسط. هذه الكنيسة توحي لزائريها انها تنتمي الى أشهر الأعمال الفنية للقرون الوسطى في الكاتدرائيات القوطية التي بنيت في الفترة بين أواسط القرن الثاني عشر والقرن الرابع عشر الميلاديين.
بدأ بناء الكنيسة في عام 1163 ميلادية ،والجرس العظيم للكنيسة هو الوحيد الذي بَقي بعد إختفاء باقي ألأجراس خلال الثورة الفرنسية ، يُقرع هذا الجرس عدة مرات في السنة في المناسبات الدينية.
التقطنا العديد من الصور التذكارية أمام واجهة الكنيسة ، حيث أافواج كبيرة من السواح الزائرين يقفون في طوابير من أجل الدخول الى مبنى الكنيسة ، في حين كان العديد ممن يمتهنون ألعاب الخفة والرشاقة والذكاء يمارسون نشاطاتهم أمام أنظار المعجبين من الزائرين..
في نيتنا زيارة معهد العالم العربي والكوميدي فرانسيز يوم غد ، وبالتاكيد سوف أكتب لك عن زيارتي لهما ومشاهداتي فيهما…

دمت  بخير والسلام

المخلص وليد،

باريس في التاسع والعشرون من آب ٢٠١٢

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب