11 أبريل، 2024 7:45 ص
Search
Close this search box.

رسائل الى صديق في المهجر : الرسالة / 13

Facebook
Twitter
LinkedIn

” رسالة من باريس  عاصمة المدنية والقانون والحريات ”
باريس في الخامس والعشرون من آب 2012

عزيزي رافد … ارجو ان تكون بخير

ربما وصلتك هذه الرسالة بعد انقطاع دام ما ينيف عن عام ونصف ، مع اننا لم نتوقف عن التحدث عبر الهاتف باستمرار وبشكلٍ يسير ، وهذه هي  احدى النعم التي وفرتها لنا التكنولوجيا المتسارعة في التطور في أيامنا هذه.
اكتب لك هذه الرسالة من باريس  مدينة الأنوار والثقافة والشعر والادب… عاصمة فرنسا بلد الحرية والإخاء والمساواة ، الذي غطى بشعاعه الثقافي والتنويري والنهضوي أغلب بقاع المعمورة منذ قيام الثورة الفرنسية وبدء عصر النهضة وحتى يومنا هذا..
باريس مدينة الجمال والانوار (la Ville de la Lumière) والتي سميت بهذه التسمية المادية لانها كانت أول مدينة في أوروبا تضاء طرقاتها بمصابيح تعمل بالكاز في عام 1828.
في حين سميت مدينة التنوير بمعناها المعنوي ، بسبب سيادة مبادئ الاتجاه التنويري في فرنسا منذ نهاية القرن الثامن عشر مما ادى الى القضاء على النظام الاقطاعي الفرنسي الذي كان يعمل لمصلحة الأسرة الحاكمة والطبقات الارستقراطية وطبقة رجال الدين على حساب مصالح الطبقات الفقيرة و الكادحة . على أثر ذلك نمت فكرة المواطنة و المساواة القومية لدى الشعب الفرنسي الذي أصبح مدركا لحقوقه المدنية و الأهلية و انتفض ليطالب بتحقيق العدالة بين كافة الطبقات دون تمييز. في ظل هذه التطورات شهدت باريس سقوط سجن الباستيل -الذي كان من أبرز رموز الاستبداد و القهر في العهد الاقطاعي – و يعد هذا الحدث من أبرز نقاط التحول الرئيسية في التاريخ الفرنسي.

صديقي العزيز ..
… عندما دخلت باريس أنا وصديقي السيد مقداد في مساء ذلك اليوم الخريفي الجميل – وقد كان باستقبالنا صديقنا السيد وليد المقيم في فرنسا منذ أكثر من عقد من الزمن –  شعرت بأنني أدخل بلدي الثاني ، حيث  ذكرياتي ، وأفكاري ، وأحاسيسي ،  تعيش ها هنا ، وبشكل يختلف تماماً عن دخولي لاي بلدٍ آخر.
تذكرت حينها يوم دخلتها أنت قبل عدة سنوات واخبرتني حينها بأن قشعريرة قد انتابتك ورجفة هزت بدنك من الوله واللهفة لدى ارتمائك بين ذراعيها واحتضانها لك.
وأنت بالتاكيد لم تزل تتذكر – مثلي تماماً – عندما كنا نتعلم الفرنسية وندرس الادب الفرنسي مطلع الثمانينيات من  القرن الماضي، كنا حينها في شوقٍ لرؤية فرنسا، بلد نابليون وديغول وجان دارك ومنتسكيو وروسو وفولتير وبودليرواندريه جيد وشاتوبريان وغيرهم من القادة والادباء والكتاب والشعراء الفرنسيين ، مثلما كانت مدام بيرييه ، مدرسة الادب الفرنسي ، في شوق لرؤية بغداد لانها – كما كانت تذكر- طالما قرأت عنها في مدرستها بباريس كونها مدينة الف ليلة وليلة ومدينة السندباد ، وشهرزاد وشهريار ،
حينها تساؤلت في داخلي ، هل هو سحر الفرانكوفونية التي تجذب محبيها الى بلاد اللغة والثقافة الساحرتين ؟ هل أن العديد من الكتاب الفرانكوفونيون محقون عندما يطلقون عليها ( الام الحنون) ، هل لانها لاتحب فقط أبنائها ، بل تحب وتحتضن كل عشاقها ومحبيها  أكثر مما تحبهم وتحتضنهم  بلدانهم أنفسه ؟.
ولعل ما شدّ انتباهي أكثر من غيره في بلاد الإفرنجة هو الالتزام بالقانون والنظام – ناهيك عن جمال وروعة المدينة الذي سأتحدث لك عنه في رسالة لاحقة  – وهي بذلك توحي أنها فعلاً  بلد مونتسكيو صاحب نظرية الفصل بين السلطات وكتابه ذائع الصيت (روح القوانين) الذي يعد صاحب أعظم مؤلفات ثلاثة من قادة الفكر السياسي والاجتماعي والفلسفي في القرن الثامن عشر،اضافة الى كتاب(التاريخ الطبيعي ) للأديب المشهور بيفون و(رسالة في الأعراف)  لفولتير. هذا البلد هو أول من صدرّ القوانين الحديثة، اذ تعد فرنسا مهد القانون الإداري ومنها انتشر إلى الدول الأخرى, فاقتبست بلدان مصر والعراق وسوريا والكويت من القانون الفرنسي الشيء الكثير والذي لا يزال معتمداً فيها. اذ كان رفاعة الطهطاوي اول من نقل القانون الفرنسي الى العربية منتصف القرن السابع عشر بعد ان درس في فرنسا ، تبعه الفقيه القانوني الكبير عبد الرزاق السنهوري بتاسيس اللبنة الاولى للقانون المدني العراق وتقنيناته وهو المستمد من أسس وتقنينات القانون الفرنسي،إذ وفد منتدباً لكلية الحقوق في السنة الدراسية 1935 – 1936 في عقد وزارة ياسين الهاشمي ، وعهدت إليه رئاسة كلية الحقوق .
 لم تساورني الدهشة من نجاح الدولة المدنية في فرنسا التي ولدت من بين نظريات فسرّت نشوء (التكافل الاجتماعي) ، تبناها توماس هوبز،وجون لوك،وجان جاك روسو، لتظهر في ما بعد انعكاساتها كنموذج دافع لاحداث سياسية كان من نتائجها تغييرات هامة في التاريخ لعل في مقدمتها الثورة الفرنسية 1789 . وهذه الدولة توحي لك بأن نبتة ( العقد الاجتماعي) قد أورقت    ولا تزال تُثمر في هذا البلد المعطاء.
هنالك مقولة تذكر أن فرنسا دولة مدنية وعلمانية في آن ، فهي مدنية لأن السلطة فيها بيد مدنيين منتخبين، وهي علمانية لأن المادة الأولى من الدستور الفرنسي تنص على أن فرنسا جمهورية علمانية، كما أن باقي القوانين الفرنسية علمانية أيضاً، مثل قانون الأحوال الشخصية الذي هو مدني أيضاً.
واذا ما اردنا الرجوع الى نتائج تطبيق العلمانية في فرنسا نجد أن الدولة المدنية هي وليدة المنهج العلماني، المعتمد على مبدأ فصل المجتمع المدني عن المجتمع الديني، أحد ابرز أسس الجمهورية الفرنسية. اي الفصل بين الدين و الدولة ، و بشكل خاص فلكل جماعة دينية حق في العبادة وممارسة طقوسها ولا تتدخل الدولة فيها.
 وقد نتج عن هذه التوجهات، المدونة في الدستورالفرنسي تقاليد تاريخية عريقة شكلّت إرثا للثورة الفرنسية ثم للجمهورية الثالثة ، هذه العلمانية التي ترسخت في فرنسا بموجب قانون 9 ديسمبر 1905، الذي يفصل بين الكنيسة والدولة. يعزز هذا القانون العلمانية في المؤسسات الفرنسية ،ويضمن حرية الاعتقاد وممارسة الدين وحرية تنظيم الكنائس ومساواتها أمام القانون الحق في الحصول على أماكن للعبادة مع حياد المؤسسات إزاء الأديان، لاسيما المدارس، وقد اتفق الفرنسيون بعد خلافات لمدة طويلة حول قيم ومبادئ العلمانية.
وبالمقارنة ، اذا مارجعنا الى بلدنا صاحب أول قانون وضعي في تاريخ البشرية وضعه حمورابي قبل ما يقارب أربعة آلاف سنة من الآن ، وقد تم تدوينه في مسلته المشهورة ، يعد أكثر البلدان في عالم اليوم تاخراً في مجال تطبيق للقانون والانصياع الى نصوصه ، وقد آلمني ذلك كثيرا عندما زرت متحف اللوفرً ، وتحديداً صالة آثار حضارة بلاد ما بين النهرين، وهي تتحدث عن حضارات سومر واكد
وبابل وآشور . هذه الحضارات العريقة  التي  أول من أوجدت للبشرية الكتابة والزراعة وشريعة القانون حيث مسلة حمورابي ماثلة في متحف اللوفر شاهدةً على أن أول ظهور للقانون كان في بلاد مابين النهرين ، في الوقت الذي نعيش فيه اليوم في فوضى عارمة – للأسف – وبلادنا التي لا تذكر في ايامنا هذه تاريخها ولا تلتزم بما هو إيجابي فيه ولا تبني الحاضر من أجل تامين المستقبل للأجيال القادمة.

عزيزي رافد..
باريس عبارة عن متحف ببناياتها ولوحة فنية رائعة بشوارعها واشجارها ونهرها ، وعندما تتجول في احيائها وشوارعها واروقتها تشعر بانها تحتضن أناساً من كل شعوب العالم 
معبرة بذلك عن كونها بلد السلام والحريات والعدالة والمساواة.

عندما سالنا صديقينا السيد وليد المقيم في فرنسا منذ اكثر من عقد : ما الذي كسبته من العيش في فرنسا وقد تركت وطنك وأهلك وضحيت بفرص عمل أفضل من تلك التي تعمل بها الان ، أجاب : لقد كسبت أهم شيء كنت أبحث عنه منذ امدٍ بعيد ، ألا وهو شعوري بانني انسان أتمتع بحماية القانون وامتلك الحرية وأعيش براحة بال أغلى لدي من الجاه واالمال، وأفخر بانني أعيش في بلد يحترم القانون والنظام ويعمل على تحقيق المساواة والعدالة والرفاهية والعيش الرغيد لمواطنيه ، وأقد أّمّنت على مستقبلي ومستقبل أبنائي . هذه الاشياء التي لا أجدها في بلدي ، ولا أتوقع أن أجدها في المستقبل القريب .
هذه المزايا وربما اكثر منها ، لاحظتها فعلاً ، في التقرير السنوي الذي يصدره موقع (international living)  على شبكة الانترنت والذي يقيس مستوى المعيشة في 194 دولة على مستوى العالم من ناحية غلاء المعيشة والترفيه والصحة والسلامة والثقافة والوضع الاقتصادي ودرجة الحريات والبيئة والذي يحدد افضل الدول ونوعية الحياة فيها وأكثرها ارتفاعا لمستوى معيشة أفرادها وتعطي نقاط على كل معيار ثم تقوم بتجميع النتيجة النهائية وترتيب الدول بناءاً على ذلك ،ووفقاً لهذه المعايير  حصلت فرنسا على أعلى النقاط  (82) نقطة ، إذ جاءت في المركز الأول على مستوى العالم من ناحية الأفضل معيشة.
ما حصلت عليه فرنسا من مركز متصدر في هذا التقرير في ما يتعلق بمستوى المعيشة والرخاء يعود لاسباب عديدة ربما في مقدمتها هو السيطرة على الفساد الذي يعد مستشرياً في أغلب بلدان العالم النامية ، وهو ما تضمنته رسالة وردتني في ايميل عبر الانترنت قبل عدة ايام من صديق وزميل لي في مهنة المحاماة ، يشير فيها الى خبر يذكر : انه في أوّل اجتماع وزاري للحكومة الفرنسية الجديدة بعد تولي الرئيس الجديد هولاند الرئاسة ، تم توزيع منشور مكوّن من صفحتين ينبغي أن يمضي عليه كلّ وزير ويتعهّد بتطبيقه.
وممّا جاء في هذا المنشور:

يمنع على كلّ وزير إجابة أيّ دعوة شخصيّة تأتيه من الخارج سواء من حكومات أو أشخاص.
كما يجب على كلّ وزير أن يعيد إلى الدولة كلّ هديّة يحصّل عليها من أشخاص تفوق قيمتها 150 يورو.
ويحجّر على كلّ وزير أيّ تدخّل لصالح فرد من عائلته أو أقاربه.
ويذكّر المنشور أن الدولة لا تتحمّل إلاّ المصاريف التي يحتاج إليها الوزراء في مهمات رسمية ضمن وظيفتهم ولا تتحمّل أيّ مصاريف أخرى، ويضيف المنشور أنّ الحماية الأمنيّة للوزراء يجب أن تكون مبرّرة ولأسباب استثنائية أمّا في العادة فيجب أن تكون تنقّلاتهم في سيارة الوظيفة سرية ومع احترام قوانين الطرقات.
ويختم المنشور أنّ العلاقة بين المواطن والحكومة هي علاقة ثقة، وإذا وقع تجاوز حتّى ولو بصفة فرديّة فإنّ هذه الثقة ستسقط وإلى الأبد لذا ينبغي دائما الحفاظ على هذه الثقة.

 

صديقي العزيز :
جانب آخر اعطى لهذا البلد هذه الخصوصية والمكانة المرموقة بين بلدان العالم ، هو احترام حقوق الإنسان الذي يعد عنصراً رئيسياً في إستراتيجية الحكومة الفرنسية المتعلقة بالحوكمة الديموقراطية التي اعتمدت في ديسمبر 2006. وتتركز برامج التعاون على جوانب تعمل فرنسا على تطبيقها عملياً في مقدمتها : رعاية حقوق الأطفال، وحقوق النساء، وحرية التعبير، ومكافحة الإفلات من العقاب ودعم العدالة الجزائية الدولية، ومكافحة عقوبة الإعدام والتعذيب، وإدانة الاختفاء القسري، ودعم المدافعين عن حقوق الإنسان، ومكافحة الاتجار بالبشر. وتقوم الحكومة الفرنسية بتنفيذ هذه المشاريع بشكلٍ مشترك مع منظمات غير حكومية، ومنظمات دولية أو مع بلدان أخرى.
وكجزء من احترام فرنسا لمبادئ الحرية والديمقراطية ودولة القانون وحقوق الإنسان والحريات الأساسية ، لذا فهي تعّد البلد الثاني في قائمة الدول التي تستقبل اللاجئين، إذ تعدّ البلد الأول في أوروبا، وتاتي بعد الولايات المتحدة الأميركية على مستوى العالم ، قبل ألمانيا والسويد وبريطانيا.
هذا هو جزء من سر نجاح بناء الدولة المدنية في عالم اليوم .. دولة العدالة والرخاء والمساواة والعيش تحت مظلة القانون التي تتمنى ان تصل اليها أغلب بلدان العالم.
فلتعش فرنسا وعاصمتها باريس ، مدينة الأنوار والنهضة والمدنية برخاء ورفاه وسلام ومثال للعدالة والحرية واحترام الإنسانية.
ساتحدث لك في رسالة لاحقة عن جولاتي في أماكن وأجواء الثقافة والادب والفن وجمال الطبيعة الخلابة ، وقد كنت متمنياً في شوق أن نلتقي فيها لنعيش اللحظات الجميلة ونستذكر كل ما تعلمناه عن هذا البلد في مجالات الحضارة والقانون والمدنية ، وكل ما درسته وكتبته وترجمته عنها طيلة ثلاث عقود من الزمن في السياسة والثقافة والادب والفن والشعر.

دمت أخا عزيزاً والسلام …

المخلص وليد ،

باريس في الخامس والعشرون من آب ٢٠١٢

[email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب