قبل ايام لا تتجاوز الاصابع العشرة، تعرضت احدى الفضائيات لتهديدات بالحرق ومصير مشابه لما تعرضت له فضائية دجلة، بحجة الاساءة للمرجعية الدينية بسبب ظهور النائب مرفوع الحصانة فائق الشيخ علي في تلك الفضائية موجهاً تساؤلات للمرجعية الدينية عن اسباب “سكوتها” كما يقول عن استهداف المتظاهرين واغتيال الناشطين، لتسارع بعض الاطراف التي تصف نفسها بفصائل المقاومة لاطلاق بيانات التهديد والرفض والتحريض ضد الفضائية والعاملين فيها، حتى وصلت القضية لمنح ادارة الفضائية مهلة 24 ساعة لتقديم الاعتذار او التحشيد لاقتحام مكتبها في بغداد.
تلك الجهات التي رفعت راية “الثار للمرجعية” استخدمت جميع الطرق “لبث الرعب” بين العاملين في الفضائية المستهدفة وهو مادفع ادارتها لاصدار بيان اعتذار خوفا من مصير مشابه لما تعرضت له فضائية دجلة التي عجزت الحكومة بجميع اجهزتها الامنية عن حمايتها لاسباب مجهولة، وبعد بيان الاعتذار تراجعت تلك الجماعات عن موقفها واعلنت “العفو” عن الفضائية، لكنها اشترطت عدم تكرار “التجاوز” على مقام المرجعية الدينية العليا للسيد علي السيستاني، وقدمت نفسها بعنوان الجنود المدافعين عن المرجع باجتهاد شخصي وهم بعيدون كل البعد عن مواقف المرجعية التي ترفض اسلوب “السلاح المنفلت” والمجاميع المسلحة خارج اطار الدولة، لكن تلك القضية لم تستمر طويلا حتى ظهرت الصورة الحقيقة لتلك الجماعات وجيوشهم الالكترونية في مواقع التواصل الاجتماعي التي اصابها “الجنون”، بعد استقبال المرجعية ممثلة الامين العام لبعثة الامم المتحدة في العراق جنين بلاسخارت، لتتحول بوصلة الدفاع عن “مقام” المرجعية الى تشكيك بمواقفه المدافعة عن الاصلاح ووحدة البلاد ومحاولة وضعه بخانة الاتهامات، بعد تحدثه بشكل مباشر بالقضايا المتعلقة بالعملية السياسية لاول مرة منذ اعلان ايقاف الخطبة السياسية في صلاة الجمعة، نهاية شهر كانون الاول من العالم الماضي 2019.
نعم… حديث المرجعية مع بلاسخارت وضع النقاط على الحروف من خلال دعوته المباشرة لحكومة مصطفى الكاظمي بمحاسبة قتلة المتظاهرين وخاصة عمليات الاغتيال الاخيرة التي استهدفت الناشطين، حينما اكد ان “الحكومة مطالبة بالعمل بكل جدية للكشف عن كل من مارسوا اعمالاً إجرامية من قتل او جرح او غير ذلك بحق المتظاهرين او القوات الامنية او المواطنين الابرياء، او قاموا بالاعتداء على الممتلكات العامة او الخاصة، منذ بدء الحراك الشعبي المطالب بالإصلاح في العام الماضي، ولا سيما الجهات التي قامت باعمال الخطف او التي تقف وراء عمليات الاغتيال الاخيرة”، ليطالب بعدها بالكشف عن الفاسدين وعرضهم للقضاء مهما كانت انتماءتهم، من خلال دعوته للحكومة “باتخاذ خطوات جادة واستثنائية لمكافحة الفساد وفتح الملفات الكبرى بهذا الشان حسب الإجراءات القانونية، بعيداً عن اي انتقائية، لينال كل فاسد جزاءه العادل وتسترجع منه حقوق الشعب مهما كان موقعه، واياً كان داعموه”، وبهذه تكون المرجعية قد “قطعت” على الكاظمي جميع الحجج التي يحاول استثمارها لتعطيل محاسبة الفاسدين.
لتوجه المرجعية بعدها تحذيرا بشان الانتخابات المبكرة شمل الجميع بدون استثناء بقولها، “إن مزيداً من التاخير في اجراء الانتخابات او اجراءها من دون توفير الشروط اللازمة لإنجاحها بحيث لا تكون نتائجها مقنعة لمعظم المواطنين سيؤدي الى تعميق مشاكل البلد والوصول الى وضع يهدد وحدته ومستقبل ابنائه، وستندم عليه جميع الاطراف المعنية الممسكة بزمام السلطة في الوقت الحاضر”، وهذا مادفع بعض الاطراف “لمهاجمة” المرجعية من خلال ادواتها لانها كشفت نواياها ومخططاتها التي تسعى لتنفيذها من خلال استغلال ورقة الانتخابات، لكن المرجعية الدينية لم تكتفي بتلك الاشارات انما ذكرت الحكومة والقوى السياسية بهيبة الدولة والحفاظ على السيادة، من خلال رسالتها بان “الحفاظ على السيادة الوطنية ومنع خرقها وانتهاكها والوقوف بوجه التدخلات الخارجية في شؤون البلد وإبعاد مخاطر التجزئة والتقسيم عنه مسؤولية الجميع، وهو يتطلب موقفاً وطنياً موحداً تجاه عدة قضايا شائكة تمسّ المصالح العليا للعراقيين حاضراً ومستقبلاً، ولا يمكن التوصل اليه في ظل تضارب الاهواء والانسياق وراء المصالح الشخصية او الحزبية او المناطقية، فالمطلوب من مختلف الاطراف الارتقاء الى مستوى المسؤولية الوطنية وعدم التفريط لاي ذريعة بسيادة البلد واستقراره واستقلال قراره السياسي”، وهذه النقطة حاولت العديد من الاطراف استغلالها وتفسيرها بما “تشتهي” ومنهم فريق رئيس الوزراء الذي استخدم “جنوده” للترويج بان المقصود من التدخلات الخارجية هي ايران فقط، وليست اميركا او تركيا وحتى الدول الخليجية، لكن حديث المرجعية واضح ولا يمكن تجزئته، لانه ببساطة، رفض التدخلات الخارجية يشمل الجميع وبدون مجاملات”.
الغريب.. أن العديد من الجهات الرافضة لموقف المرجعية، بدات تبحث عن وسائل لتضليل “عباد الله” من خلال انتقاد توجيه رسائل المرجعية عبر ممثلة الامم المتحدة وليست بشكل مباشر، حتى ان بعضهم توسع باحلامه واصبح يتحدث بان موقف المرجعية كان مكتوبا من قبل بلاسخارت، متجاهلين بان مكتب المرجع الاعلى اصدر بيانا بعد اللقاء تحدث فيه عن جميع النقاط، لكن الحقيقة اصبحت واضحة فاعتراض تلك الاطراف جاء بعد شعورها بالخطر من موقف المرجعية الذي يدعو لاصلاح حقيقي ولم يكن دعما لطرف على حساب اخر، كما يروج الطرف الخاسر، بان رسائل المرجع كانت دعما للكاظمي، في حين انها لم تكن سوى “مساندة” للاجراءات الحكومية التي تعهد الكاظمي بتنفيذها كما ساندت المرجعية اجراءات رئيس الوزراء الاسبق حيدر العبادي الذي فشل في استغلال تلك الفرصة لتحقيق الاصلاحات.
وعلى الرغم من تلك الرسائل التي رد عليها الكاظمي بوصفها توجيهات لتحقيق تطلعات المواطنين، ليبلغنا بانتهاء المرحلة الاولى من محاسبة قتلة المتظاهرين، وبشرنا بقرب انطلاق المرحلة الثانية، متعهدا بعدها بالثبات على طريق الاصلاح، الذي ختمه بمقولة “ولا نخاف في الحق لومة لائم”، لكن بعد ساعات خرج علينا رئيس الوزراء بقرار لتوزيع الدرجات الخاصة بين القوى السياسية من خلال تدوير الوجوه، ليمنح البنك المركزي للتيار الصدري وامانة بغداد لتيار الحكمة ووكالة الامن الوطني لتحالف القوى ومرشحهم النائب فالح العيساوي، الذي “لا يفقه ما يقول”، في حين اعاد وزير العدل الاسبق حسن الشمري بمنصب رئيس هيئة الاوراق المالية باعتباره من حصة حزب الفضيلة، ووزير الدفاع الاسبق خالد العبيدي بمنصب وكيل شؤون العمليات لجهاز المخابرات، كترضية للقوى السنية في محافظة نينوى، ليكافئ ائتلاف دولة القانون بمنصب رئيس هيئة النزاهة بتسمية علاء جواد الذي شغل منصب رئيس الهيئة خلال ولاية زعيم دولة القانون نوري المالكي قبل ان يستقيل في العام 2015، ولم ينسى الكاظمي الشيخ سامي المسعودي ليجد له مكانا كرئيس لهيئة الحج والعمرة من خلال تحويل قرار رئيس الوزراء المستقبل عادل عبد المهدي بتعيين المسعودي بالوكالة لرئاسة الهيئة إلى الاصالة، متجاهلا تورط المسعودي بملفات فساد مرتبطة بوزارة العدل حينما كان قياديا في حزب الفضيلة، لكن الكاظمي لم يتجاوز حصته من التعيينات الجديدة ليضع مستشاره سالم جواد عبد الهادي بمنصب مدير مصرف التجارة، ومستشارته سهى داود الياس بعنوان رئيسة هيئة الاستثمار الوطنية ، وبهذه الطريقة تكون المناصب توزعت بالتساوي بين رئيس الوزراء والقوى السياسية بطريقة اصلاح جديدة.
الخلاصة… ان تجاهل الكاظمي لدعوات المرجعية الدينية وتحذيراتها سيجعله يخسر الفرصة التي منحتها المرجعية بمساندة اجراءاته ليكرر الخطا ذاته الذي وقع فيه العبادي، حينما لم يستثمر دعم المرجعية والمتظاهرين، في وقت ترى القوى السياسية بان موقف المرجعية يمثل تهديدا لمشاريعها التي تجعل الكاظمي مجرد “اداة” لتحقيق اهدافها وليست لاصلاح العملية السياسية وبالتالي فان رئيس الوزراء وباعلانه قائمة الدرجات الخاصة الاخيرة قد انهى جميع الفرص بالتغيير “وخيب امال” المرجعية الدينية بتحقيق مطالب المواطنين التي ستقلص فرصة الكاظمي للبقاء مع اقتراب موعد تشرين الاحتجاجات.. اخيرا.. إن السؤال الذي لابد منه: هل كشفت المرجعية عورات الكاظمي والفصائل؟..