23 ديسمبر، 2024 2:30 م

رسائل الصلاة الموحدة ..

رسائل الصلاة الموحدة ..

حتى كتابة هذه السطور تكون قد اقيمت ثلاث صلوات موحدة في العاصمة العراقية بغداد، الاولى في نصب الشهيد، والثانية في جامع الخلاني، والثالثة في الحضرة القادرية.
القراءة الاولية لمعطيات وابعاد تلك الصلوات يمكن ان تتحدد بثلاث نقاط، تحتاج كل واحدة منها الى قدر من التفصيل:
الاولى:صياغة خطاب عقلاني وهاديء وحكيم يساهم في احتواء الازمات، ويفضي الى درأ خطر الفتنة الطائفية عن البلاد، ودفع ساسة البلاد، لاسيما المعنيين بزمام الامور واصحاب القرار الى مراجعة مواقفهم وتوجهاتهم واعادة النظر في الاداءات العامة التي شابها الكثير من الخلل والقصور والتقصير والنقص، لاسباب عدة، لعل من بينها الاختلاف والتناحر وانعدام الثقة بين الشركاء السياسيين، وضعف البناء المؤسساتي، اذ برز ذلك واضحا لدى الاجهزة الامنية المسؤولة عن حماية ارواح الناس وصيانة ممتلكاتهم، التي بدا في بعض الاحيان انها عاجزة عن التصدي للجماعات الارهابية المسلحة وهي تمعن بسفك الدماء وازهاق الارواح بلا اي وازع ديني او اخلاقي.
وقد اشار الخطباء الذين تناوبوا على منابر صلوات الجمعة الموحدة الثلاث الى هذا الجانب، ومن بينهم رئيس ديوان الوقف الشيعي السيد صالح الحيدري، ورئيس ديوان الوقف السني احمد عبد الغفور السامرائي، وامام جامع الخلاني السيد محمد الحيدري، ورئيس جماعة علماء العراق-فرع الجنوب الشيخ خالد الملا، وامام الحضرة القادرية الشيخ محمود جراد العيساوي.
فضلا عن ذلك فأن ساسة ورجال دين دعوا الى استثمار مثل هذه الأجواء الايجابية التي اوجدتها الصلاة الموحدة في بغداد بإجراء حوارات حقيقية وجادة من أجل الخروج من المأزق السياسي الراهن.
والى جانب ذلك فأن بعض المراقبين اعتبروا ان حصول لقاءات على نطاق واسع بين زعماء وسياسيين من مختلف المكونات والعناوين ، كما هو الحالة بالنسبة للاجتماع الرمزي في مكتب رئيس المجلس الاعلى الاسلامي العراقي السيد عمار الحكيم يوم السبت الماضي، اعتبروه من جانب يمثل احد المعطيات الايجابية لخطوات ومبادرات التهدئة والتي من بينها صلوات الجمعة الموحدة، ومن جانب اخر اعتبروه احد عوامل تخفيف الاحتقان وترميم اواصر الثقة بين الشركاء.
الثانية:اثبات حقيقة ان الارادة الوطنية قادرة على الوقوف بوجه الاجندات الخارجية، والارادات الساعية الى خلط الاوراق، ودفع العراقيين الى الصدام والمواجهة على اسس طائفية ودينية ومذهبية، ورغم فشل اصحاب الاجندات الخارجية في تحقيق ذلك الهدف بعد سلسلة محاولات، كان ابرزها تفجير مرقد الامامين العسكريين في مدينة سامراء قبل اكثر من سبعة اعوام، الا ان هناك من اعتقد ان الظروف الحالية مواتية-في ظل الاحتقان والتأزم السياسي، والاوضاع الاقليمية القلقة-لتكرار محاولات خلط الاوراق، من خلال تصعيد العمليات الارهابية الموجهة ضد المدنيين واماكن العبادة في مناطق بعضها ذات اغلبية شيعية واخرى ذات اغلبية سنية، واستغلال المنابر الدينية لصب المزيد من الزيت على نار الفتنة الطائفية، والتحريض على الحكومة وتصويرها بأنها حكومة طائفية خاضعة لقوى خارجية، وتقويض اركان الدولة المتمثلة بالدستور والمؤسسات.
وكان واضحا ان ساحات الاعتصام والتظاهر في بعض المحافظات، التي اريد لها ان تكون سلمية، وتطرح مطاليب مشروعة وقابلة للبحث والنقاش، تحولت بعد وقت قصير الى ميادين واوكار ومنطلقات ومنابر للفتنة الطائفية، وللعمليات الارهابية، وللفوضى والاضطراب، وابوابا للعودة الى مظاهر العنف مثل الخطف والقتل على الهوية، واطلاق الفتاوى التكفيرية، ولم يعد صعبا على اي متابع ان يلمس مثل تلك التوجهات وهو يستمع الى مايقوله بعض-اومعظم-من يرتقون المنابر في ساحات الاعتصام، مثل سعيد اللافي وعلي حاتم السليمان واحمد ابو ريشه ومحمد خميس ابو ريشة وغيرهم.
وساهمت عدد من وسائل الاعلام العراقية والعربية-لاسيما القنوات الفضائية مثل الرافدين وبغداد والغربية وسامراء والشرقية والجزيرة القطرية-في حملات التحريض والشحن الطائفي وقلب وتزييف الحقائق.
وجاءت صلوات الجمعة الموحدة في بعض المحافظات الغربية لتوسع دائرة الخطاب التحريضي الطائفي، بدلا من احتوائه وتقليص مساحاته، ولعل هذا مادفع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الى اطلاق دعوة لاقامة صلاة موحدة من قبل الوقفين الشيعي والسني في العاصمة بغداد التي تتميز بتنوعها الطائفي والمذهبي.
الثالثة:تعزيز ثقة الجمهور بالمؤسسة الدينية، الاسلامية -ايا كانت عناوينها- والفرز بين توجهين، احدهما يقوم على التحريض والتزييف وقلب الحقائق والتكفير، والاخر يقوم على التهدئة والحوار والبحث عن المشتركات ونقاط الالتقاء، وبالتالي العمل على صياغة وبلورة خطاب ديني معتدل ومتوازن يشيع اجواء الامن والاستقرار، ويعمق ويرسخ الاخوة الاسلامية.
وقد اشار خطيب صلاة الجمعة الموحدة في جامع الخلاني الشيخ خالد الملا الى هذين التوجهين بقوله “ان الصلاة الموحدة هي مشروع دائم للمحبة والتعايش والتعاون والأمن والأمان، وان صلاتنا الموحدة ليس فيها سباب ولا شتيمة ولا تحريض على القتل أو استهداف لأبناء العراق من الجيش والشرطة، فالصلاة الموحدة تهدف الى التصدي للإرهاب واحزمته الناسفة والمسلحين بكل انواعهم واشكالهم وتوجهاتهم، وجعل السلاح بيد الدولة فقط كونها المسؤولة عن حماية المجتمع وليس العكس، وتهدف ايضا الى تعميق هويتنا الوطنية ورفع علم العراق عاليا من خلال احترام الهوية الدينية والمذهبية والقومية”.
وبنفس المعنى يشير رئيس لجنة الاوقاف في البرلمان العراقي السيد علي العلاق بقوله “ان الهدف من الصلاة الموحدة هو تعزيز الإخوة الإسلامية بين أبناء العراق سنة وشيعة، وهي رد حاسم على كل دعاة الفتنة ممن يرون أن العراقيين ممزقون”.
وقد لايختلف اثنان على حقيقة ان الكثير من الفتاوى التكفيرية والخطابات الطائفية السيئة، وتحريض طائفة على طائفة اخرى، كما جاء مؤخرا على لسان رئيس مايسمى الاتحاد العالمي لعلماء للمسلمين يوسف القرضاوي، حينما دعا ابناء السنة الى التوحد لمواجهة الشيعة، وحذرهم من خطر الشيعة عليهم.
وكذلك لايختلف اثنان على حقيقة ان تلك الفتاوى والخطابات التحريضية الطائفية وجدت لها ارضيات ومناخات ملائمة في بعض المواقع، وحظيت بالقبول من بعض الفئات والشرائح، بيد ان ماساهم في تقليل تأثيراتها السلبية والحد من مخاطرها الكبيرة على المنظومة الاسلامية هو التوجهات العقلانية المسؤولة لمراجع دين كبار وعلماء وساسة ومفكرين وشرائح اجتماعية من مكونات مختلفة، ادركت منذ وقت مبكر حجم وخطورة المخططات التي يراد تمريرها على المسلمين.
ولاشك انه حينما تنطلق اصوات كثيرة تدعو وتحث على تفعيل واستمرار الصلوات الموحدة ذات الاتجاه والتوجه الوحدوي والعقلاني، فأنما يعكس ادراكا وفهما عميقا لطبيعة التحديات التي تواجه المسلمين بكافة طوائفهم ومذاهبهم، ليس في العراق فحسب وانما في بقاع مختلفة من العالم الاسلامي.
وفي ذلك يقول السيد صالح الحيدري “ان الصلاة الموحدة التي اقيمت في الرابع والعشرن من الشهر الماضي في نصب الشهيد ببغداد كانت محل ارتياح للجميع ما دعا الجهات المعنية الى طلب استمرار اقامتها في الظروف الحالية التي تتطلب وحدة وتماسك الجميع في مواجهة التحديات التي يمر بها البلد”، وهذا ما اكده بتعبير اخر رئيس لجنة المصالحة البرلمانية قيس الشذر حين قال “ان اقامة الصلاة الموحدة اسهم في افشال مخططات اثارة الفتنة الطائفية بين ابناء الشعب العراقي، وينبغي توسيعها والعمل على ترسيخ المشتركات بين المذاهب في جميع المحافظات وتعزيز الاواصر الاجتماعية في هذه الايام لقطع الاوتار التي يلعب عليها الارهاب”.
[email protected]