اعادت سلسلة العمليات الارهابية التي شهدها الشارع العراقي خلال الاسابيع القلائل الماضية الى ذاكرة الكثير من العراقيين مشاهد القتل والتهجير والتدمير اليومي المرعب طيلة عامي 2005 و 2006، واعادت معها هواجس ومخاوف ربما تكون قد غابت وتلاشت من الاذهان بعد انحسار الارهاب في العراق ونجاح الدولة في بسط نفوذها وتسجيل حضورها في مناطق كانت خارج دائرة سيطرتها وتحت قبضة الجماعات الارهابية.
طريقة تنفيذ العمليات الارهابية، وطبيعة الاماكن المستهدفة، والخطابات التي رافقتها، هي التي قرعت جرس الانذار بقوة.
-ففي العاصمة بغداد، ومنها جنوبا نحو الديوانية وذي قار وميسان والبصرة، ومنها شمالا بأتجاه كركوك وصلاح الدين وديالى، معظم العمليات الارهابية التي وقعت، نفذت بطريقة انتحارية، وهو ما يشير بوضوح الى ان تنظيم القاعدة يقف ورائها، من خلاله جناحه في العراق المسمى بـ”دولة العراق الاسلامية”، ولعله اعلن في بيانات له مسؤوليته عن القسم الاكبر من تلك العمليات الارهابية.
-والى جانب كون المناطق التي شكلت ميدانا للعمليات الارهابية ذات اغلبية شيعية، سواء كانت من المكون العربي، او المكون التركماني، فأن الاماكن التي تم استهدافها، كانت عبارة عن اسواق شعبية، ومساجد وحسينيات، اي انها اماكن يحتشد فيها الناس في معظم الاوقات او في اوقات محددة، وهذا يعني ايقاع اكبر قدر من الخسائر البشرية.
-وفي كل مرة كان تنظيم القاعدة يعلن مسؤوليته عن عملية-او عمليات-ارهابية، يتحدث عن ان ذلك يأتي في اطار الدفاع عن ابناء السنة، وكأن هناك حربا بين الشيعة والسنة، وهذا ما ترسخ خلال الاعوام العشرة الماضية في اذهان وتصورات الكثير من المسلمين وغير المسلمين خارج العراق.
-ولم تقتصر العمليات الارهابية على تفجير السيارات المفخخة والاحزمة الناسفة والاغتيالات بكواتم الصوت، بل انها امتدت الى اقتحام البيوت من قبل جماعات مسلحة، وقتل جميع او معظم افرادها، وكذلك امتدت الى عمليات اختطاف الناس المدنيين ومنتسببي الاجهزة الامنية والقوات العسكرية، وتصفيتهم بأساليب وحشية، وهذا ماحصل مؤخرا في محافظة الانبار، ويبدو ان عمليات الاختطاف اكملت اعادة رسم صورة مشهد عامي 2005 و 2006.
وفي اطار مقاربة التداعيات الامنية الاخيرة مع تداعيات الوضع السياسي العام، فأنه لابد من التوقف عند ظاهرة التجمعات الاحتجاجية والاعتصامات التي بدأت في المحافظات الغربية منذ حوالي خمسة شهور، وبدت لاول وهلة سلمية، بيد انها في الواقع انطوت على مظاهر عنف وتحريض خطيرة طفت على السطح بعد وقت قصير.
فهي-اي الاعتصامات-حملت في باديء الامر مطاليب مشروعة، او قابلة للبحث والنقاش، مثل اطلاق سراح الموقوفين والموقوفات، والغاء قانون المساءلة والعدالة، ورفع الحظر عن ممتلكات عناصر الاجهزة الامنية في النظام السابق، الا انها سرعان ما اتسعت لتتحول الى مطالبات بألغاء الدستور، والغاء العملية السياسية، ودعوات الى اسقاط الحكومة التي يصفونها بالطائفية، وتهديدات بالزحف العسكري الى بغداد، وتشكيل اقليم سني مستقل، واكثر من ذلك تهديدات واضحة وصريحة بأزهاق الارواح وسفك الدماء في كل محلة وشارع وزقاق. وكل ذلك قاله مرات عديدة من ارتقوا منصات الخطابة في ساحات الاعتصام، ومنهم المتحدث بأسم المعتصمين سعيد اللافي، وعلي حاتم السليمان، واحمد ابو ريشة، واحمد العلواني، ومحمد خميس ابو ريشة، وغيرهم.
وفي خضم ذلك التصعيد والتحريض والشحن الطائفي، غابت اصوات العقل والهدوء والحكمة التي حاولت ايقاف حالة التداعي، والحؤول دون الانزلاق الى المنعطفات والمحطات والنقاط الخطيرة.
ولعل استهداف مناطق بعينها، واماكن بذاتها لايقاع اكبر عدد من الضحايا، واشاعة الرعب والفزع، مثل اشارات واضحة على طبيعة وحقيقة الاجندات الموضوعة والاهداف المراد تحقيقها، وقيام جهات من الطرف الاخر بأستهداف مناطق واماكن من لون مذهبي وطائفي اخر يمثل انسياقا غير محسوب النتائج والمعطيات بدقة وحكمة مع الاجندات المشار اليها، واقترابا من الاهداف الخطيرة المراد تحقيقها.
وهنا فأن عوامل الدفع والتحريض الخارجي كانت –ومازالت-حاضرة بقوة من خلال المنابر السياسية، والوسائل والاعلامية، والاجهزة المخابراتية، والمؤسسات الدينية، ومن دول عربية واقليمية مثل السعودية وقطر وتركيا، وهذه افصحت عن مواقفها وتوجهاتها دون حرج وتردد، في مقابل اطراف حرصت على ان تبقى ادوارها السلبية في المشهد العراقي بعيدة عن دائرة الرصد والتشخيص.
وتهديد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في مناسبات عديدة، لاسيما في الاونة الاخيرة، بكشف الجهات الضالعة بدعم الارهاب وتنفيذ مخططات قتل العراقيين، تؤشر الى ان هناك حقائق ومعطيات خطيرة في حوزة اصحاب القرار العراقي، وان تجنب اماطة اللثام عنها ربما يرتبط بحسابات واعتبارات معينة، قد تكون مبررة ومقبولة في بعض الاحيان، وقد تكون غير ذلك في احيان اخرى، علما انه بين الفينة والاخرى تظهر تسريبات في هذه الصحيفة او تلك القناة التلفزيونية عن جانب من الخطوات والمخططات التي تنفذها بعض الاطراف.
ففي صيف العام الماضي تحدثت وسائل اعلام عربية واجنبية عن استراتيجية سعودية جديدة للتعاطي مع الملف العراقي ارتباطا بتطورات الاحداث في سوريا، جاء بها بندر بن سلطان بن عبد العزيز بعد تعيينه رئيسا لجهاز المخابرات السعودي خلفا لعمه مقرن بن عبد العزيز.
وتقوم تلك الاستراتيجية على خلط الارواق الاقليمية بأكبر قدر ممكن، من خلال التحرك السريع بأتجاهات متعددة-سوريا والعراق ولبنان واليمن ومصر والبحرين.
ولعل تصاعد وتيرة الارهاب في الشارع العراقي منذ ذلك الحين مثل اشارة واضحة على التوجه السعودي للتصعيد وخلط الاوراق، كنوع من الرد على المواقف العراقية الرسمية الداعمة لنظام الحكم في سوريا والرافضة لمبدأ اللجوء الى القوة العسكرية والتدخلات الخارجية لتغييره.
ولايختلف الامر كثيرا بالنسبة للدوحة وانقرة، رغم انهما تقاطعتا مع الرياض في محطات ومنعطفات معينة، ولعلهما كانا اكثر صراحة ووضوحا في التعبير عن مواقفهما الداعمة للجماعات التي تعمل ضد الحكومة العراقية وتسعى الى اسقاطها.
وتصنيف المواقف بالنسبة للعراق يكاد يكون متشابها –ان لم يكن متطابقا-مع تصنيفها في سوريا وفي بلدان اخرى تشهد اوضاعا وظروف غير مستقرة بفعل العوامل الخارجية اكثر من العوامل الداخلية.
وفي الاطار العام فأن التناحر السياسي وتقاطع المواقف، والاختلافات المتواصلة بين القوى السياسية العراقية حول ملفات وقضايا صغيرة وكبيرة، ساهم نوعا ما في توفير وتهيئة ارضيات مناسبة للجماعات الارهابية، ولكل الاطراف التي تخطط لاشاعة الفوضى والاضطراب في العراق، وليس صعبا على المراقب ان يلاحظ ان هناك تناسبا طرديا بين تأزم الاوضاع السياسية، والتداعيات الامنية، والتدخلات الخارجية.
وهذا يعني ان جزءا من الحل هو في الواقع بيد القوى السياسية العراقية المساهمة بالعملية السياسية، وغياب هذا الجزء يعني غيابا حتميا للجزء الاخر، وبالتالي استمرار حالة التداعي والانزلاق، ومن ثم امكانية خروج الامور عن السيطرة في لحظة ما.