(سيعلم الكفار لمن عقبى الدار)
هذه قراءة لكلمة المتحدث الرسمي لداعش ابي حمزة القرشي (سيعلم الكفار لمن عقبى الدار) الذي نشر في صحيفة النبأ/ العدد 236/ الخميس 28 أيار 2020.
قبل تحليل الكلمة لابد من الاشارة الى أن ابو حمزة القرشي هو المتحدث الرسمي لداعش بعد مقتل المتحدث السابق ابو الحسن المهاجر، الذي قتل في غارة امريكية مع ابو بكر البغدادي. كان الظهور الاول له اعلاميا اصدار صوتي في 31/10/2019 معلنا تنصيب ابو ابراهيم الهاشمي خليفة لداعش بعد مقتل ابو بكر البغدادي. لديه ثلاث اصدارات صوتية، الاول بعنوان (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا”)، الثاني (دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا). الثالث (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ).
تحليل الكلمة
الفرضية الاساسية التي نعتمدها في اي مقاربة لاعلام داعش، هي اعتبار ما يصدر عن الخليفة او المتحدث الرسمي للتنظيم توجيهات استراتيجية سيتم اعتمادها من قبل التنظيم، وبالتالي فان الوقوف على التوجهات والميول والنوايا يصبح امرا ممكنا لاي قراءة معمقة لتلك النصوص.
تضمنت كلمة (سيعلم الكفار لمن عقبى الدار) اربع مسائل اساسية:
فايروس كورونا والتغيرات التي سيشهدها العالم والفرص المتاحة لداعش.
الدعوة الى الجهاد والالتحاق بداعش.
اطلاق التهديدات للصحوات والروافض.
وصايا للاجناد والاسرى.
باستثناء المسألة الاولى فان المسائل الاخرى تبدو تقليدية ولم نلحظ اي تغيير في نوايا او سياسات داعش تجاه الصحوات والروافض أو الدعوة الى أهمية الالتحاق بالمجاهدين أو الوصايا العامة للاجناد والاسرى، سوى ان داعش يراهن كثيرا على انسحاب القوات الامريكية من العراق، ويعتبرها فرصة للانتقام والنكاية سواء بالشيعة او بالحشد العشائري. ولان المسألة الاولى اخذت حيزا اكبر من الكلمة وكانت بمثابة المدخل، فإننا سنتعمق فيها كونها تعتبر من المواضيع الجديدة التي تناولتها الكلمة، وتضمنت جملة من المغالطات المنطقية، فشروط الحجة الصحيحة هي صحة المقدمات، وصحة الترابط المنطقي بين النتائج والمقدمات، ووضع الحجة بشكلها النموذجي. لهذا يصبح من الواجب علينا كشف هذه المغالطات لمعرفة نقاط الضعف في الكلمة، فقوة اي مقال تكمن في وجاهة الحجج التي يسوقها الكاتب لاقناع القارئ بالنتائج والاستدلالات التي يتوصل اليها. مع ملاحظة نقطة مهمة، أن الجمهور المستهدف هنا، هو جمهور متدين، يتقبل ما يطرح عليه بدون تمحيص، طالما كان الاطار المرجعي للمبررات المستخدمة هو النص المقدس والسنة النبوية، ولا يهم هنا ان كان النص صريحا او مباشرا او يتم لوي عنقه لتحقيق الغاية الاساسية وهي اقناع المتلقي وتضليله لترسيخ المزيد من الاوهام والآمال الزائفة في نفسه.
اعتبر المتحدث الرسمي لداعش في هذه الكلمة فيروس كورونا بأنه انتقام رباني من الطواغيت والصليبيين، وهذا الانتقام جاء مطابقا لجنس افعالهم، بعد ان حاربت وتكالبت الدول الصليبية على دولة الاسلام (فكما رميت اشلاء الموحدين في الطرقات بقصف طائراتكم)، ها هي جثثكم ترمى في الطرقات والمزابل. وفي هذا السياق تعمد القرشي اختيار آيات محددة لدعم فرضيته. (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ * فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ *. الاعراف 133-136، ومن سورة يونس اختار الاية 90-91(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ ). ومن سورة السجدة اختار الاية 21-22 (لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)، (السجدة 21-22)
والمقصود بالعذاب الادنى، هو العذاب الأسهل مثل القحط والطاعون والوباء والقتل والسبي والزلزلة وانواع المحن والبليات، التي هي أسهل وأيسر بمراحل دون العذاب الاكبر الذي هو عذاب الاخرة. وواضح ان وضع كورونا في خانة العذاب الادنى واعتباره انتقام رباني سيجد اذان صاغية لدى الكثيرين من المسلمين، ممن اشبعوا بالتفكير الديني، الذي هو تفكير تعبدي يمتاز بالطاعة والقبول، وهو مشبع في ذات الوقت بقصص الاوبئة التي تملى التاريخ البشري، وتأكيد القران بوجود نوعين من العذاب الادنى والاكبر، يوفر لاي “رجل دين” ذخيرة حية يصيب بها ما يشاء ليخلط الاوراق على المتلقين في زمن الجائحة الذي هو اخطر من الوباء، فهل كورونا من جنس العذاب الادنى؟ وهل هو فعلا من عند الله؟! وهذا سؤال كبير يحتاج الى إجابة دقيقة، لان المترتبات عن السؤال سيمس جانبا مهما من الدين، طالما كانت البشرية تعيش محنة حقيقة، والناس في هذه المحنة يشعرون بالحاجة الى التضامن والتكاتف. وهل يمكن في هذا الوضع ان يفرح اي انسان سوي وهو يشاهد اصابة الملايين من الناس بهذا الفيروس وفقدان المزيد من الاحبة والاصدقاء؟ حتى يفرح به ابي حمزة القرشي ومن معه من الدواعش ليقول بالفم الملئان (نحن نفرح اليوم بما اصابكم من عذاب الله العظيم الذي سائكم في الدنيا (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ) التوبة 52.
وهنا التحدي الذي يواجه كل من يتعرض لفكر واعلام داعش، بسبب هذا البعد الديني الذي يستغله داعش، والذي سيضع اي متصدي له في وضع حرج، خاصة وان النصوص الدينية من هذا النوع تعتبر من المقدسات وفوق النقد والمراجعة، مما يترك الساحة مفتوحا لمدعي الفقاهة والعلم الشرعي امثال هؤلاء لاستغلالها خدمة لمآربهم. ولا ندري الى اي حد يتفق رجال الدين من الطوائف والمذاهب الاخرى مع ما ذهب اليه القرشي من التفسيرات والاستنتاجات، وكم يختلفون معه، فالمنطق العقلاني يفترض، أن ما يسوقه القرشي ليس سوى اوهام واضراره على جوهر الدين اكبر. وقد يكون مفهوما اسباب لجوء شخص مثل القرشي لهكذا طروحات، كونها تمنيات واوهام كتعويض عن النصر الالهي الذي تاخر كثيرا لا بل صار نوعا من المستحيل في ظل موازين القوى الحالية. فلو كانت الاصابات تقتصر فقط على الدول الطاغوتية او على دول معينة دون الدول الاخرى، لربما اكتسب الكلام شيئا من المعقولية واعتبار ما يحصل هو تدخل مباشر لله في الشؤون العامة للبشر، اما وقد تحول الوباء الى جائحة تشمل جميع الدول بالعالم، فليس لاحد ان يفرح او يشمت، فالكل معرضون للإصابة، و (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ)، واذا كان من ركب السفينة مع نوح هم المشمولين فقط برحمة الله سبحانه وتعالى، فمن يستطيع ان يفرز لنا اليوم، المشمولين بهذه الرحمة ونحن راينا كيف اغلقت الكعبة، والمساجد، والمزارات الاسلامية، بسبب الخوف من انتشار الفيروس الذي لا يميز بين كافر ومسلم او ابيض او اسود، فكلنا مهددون بالاصابة وانظارنا تتجه الى الدول الطاغوتية لاكتشاف العلاج او اللقاح حتى تنتهي هذه الازمة، لتستمر رحلة تحدي الانسان للطبيعة والكوارث والاوبئة، فكلما انتصر الانسان في صراعه المستمر هذا منذ بدء الخليقة، كلما كان ذلك مبعث فخر لله امام الملائكة، فالإنسان هو خليفة الله على الارض، والتاريخ اثبت جدارته بهذا اللقب وهذا التشريف، وبغير الانسان لن يكون لهذا الوجود اي معنى.