“تأديب الطبيب العراقي” ؟
أليس عيبا هذا الكلام ؟
أنا طبيب عراقي وأتشرف بذلك .عملت على مدى ثلاثة عقود في أقسى الظروف وأبشعها وخضت ثلاثة حروب , كنت أعالج فيها الجرحى تحت القصف الوحشي للطائرات والصواريخ وفي ظل أنقطاع متواصل للكهرباء وبأدوات أقل ما يقال عنها أنها بدائية وبتعقيم يعتمد على الغلي بالماء ,وتحملنا قسوة النظام السابق وحملات الاعدامات والاعتقالات والقمع والترهيب وعملت ثلاثة عشرة سنة تحت أبشع حصار اقتصادي وبراتب لايتجاوز الدولارين شهريا ,وعانيت وبكل شرف الفاقة والحرمان مع عائلتي طوال تلك السنين .ثم استمريت بالعمل طيلة العقد الأخير في ظروف لاترحم من انفجارات بالسيارات المفخخة والعبوات اللاصقة والأحزمة الناسفة , وكذلك من الاغتيالات والاختطافات والتسليب في وضح النهاروفي عتمة الليل , وفي ظل ضغوط ادارية وملاحقات قضائية وتهديدات عشائرية وميليشاتية. نأتي الى عملنا طيلة هذه الاعوام وكلنا قلق وترقب من حدوث انفجار في أية لحظة أوتعرض لهجوم من مجموعة مسلحة تقوم باغتيالنا أو خطفنا أو تسليبنا. نأتي الى محل عملنا ونحن قلقون على أطفالنا خشية تعرِضهم لانفجار أو اختطاف. وفوق هذا فنحن نعمل تحت امرة نظام صحي متخلف وبتجهيزات ناقصة وبمواد رديئة الصنع وبكميات شحيحة وفي ظل فساد يدب في أوصال الدولة وبراتب يعتبر من الرواتب الضعيفة قياسا للمستوى المعيشي و هو أقل من عشر نظيره الأمريكي. وها أنا ذا والحمد لله لاأمتلك غرفة واحدة ناهيك عن قصور “الدبل فليوم” التي تتكلم عنها. وبعد هذا كله وبعد هذه الخدمة التي خدمتها وبعد كل هذه الشدائد التي مرت بنا تأتي أنت وأمثالك لتعيبوا علينا عملنا وتنتقصوا من شرف مهنتنا وتتهمنا بالمتاجرة بنقص الأوكسجين كما أسميتها. ألم تسأل نفسك يوما من يعالج عشرات بل مئآت الجرحى الذين يتساقطون يوميا نتيجة الانفجارات ومحاولات الاغتيال طوال عقد من الزمن ؟ ألم تسأل نفسك من يقوم باجراء العمليات الجراحية لآلاف المرضى يوميا على طول البلاد وعرضها من الذين لايملكون ثمن علاجهم في القطاع الخاص أو خارج البلد والذين تفوق مواعيد انتظارهم السنة بسبب الزخم الشديد ؟ ألم تسأل نفسك من يقوم بعلاج الأمراض المزمنة والحادة والانتقالية والنفسية والحالات المستعصية ؟ ألم تسأل نفسك من يقوم بالسهر في ردهات العناية المركزة والتنفسية والقلبية ؟ ألم تسأل نفسك من يقوم بالاعتناء بالمرضى أيام العطل الرسمية وفي الاعياد والمناسبات الدينية والوطنية ؟ كل هذا مجانا لأن الراتب نفسه سواء قل العمل أم زاد.ثم لماذا هذا التخصيص بالأطباء بالذات؟ لماذا لم تذكر القضاة المرتشين مثلا وهوالامرالذي يقر به القاصي والداني ؟ بل لم لم تذكر السياسيين والمؤتمنين على البلد ممن هم في موقع المسؤولية والذين هم على استعداد لبيع الوطن بحفنة من الدنانير(عفوا من الدولارات)؟ لماذا لم تذكرهم وما يجنيه الواحد منهم في الصفقة المشبوهة الواحدة يعادل الاف الاضعاف ما أكسبه طوال حياتي بالعمل الشريف ؟ ثم لماذا التعميم بأل التعريف ؟ نعم هناك ممارسات خاطئة وسلبية بل وشائنة لاترقى أكثرمن وصفها بالشاذة قد تكون قليلة أو كثيرة ولكن مهما كثرت تبقى حالات فردية لاتسيء لشرف المهنة ولا تنتقص ممتهنيها.وعلى العكس من القطاعات الأخرى التي انهارت ولم تعد تنتج أوتقدم أدنى خدمة مثل الصناعة والزراعة والتعليم والثقافة وغيرها ظل القطاع الصحي يقدم خدمات وان كانت أدنى من المطلوب بما لايمكن مقارنته.ولاتنسى أنت وغيرك أن هناك الكثير ممن دخلوا المجموعة الطبية وهي منهم براء وذلك عبر التزكية الحزبية وعبراتحاد الطلبة وممن هم ذوي الشهيد أو عبر النفقة العسكرية لكل من هب ودب من أصحاب المعدلات الضحلة. هذا في وقت النظام السابق . وفي السنين الاخيرة استمر العمل بهدا النظام ولو بمسميات جديدة حيث شملتها المحاصصة الحزبية والطائفية مثلما شملت غيرها من النشاطات السياسية والثقافية والمهنية .لكني أريد أن أسألك ما هو عملك أنت ؟. يبدو أنه ومن خلال نبرة الاستخفاف الواضحة عندك ومن خلال اسلوب السخرية الذي تتبعه أنك من “المغتربين ” الذين يقومون بزيارة خاطفة للبلد و يبدون ملاحظاتهم الساخرة واللاذعة عنا ثم يرحلون. أقول خاطفة لأن أرواحهم عزيزة عليهم ويخافون أن تحصدها نيران الارهاب وعصابات الاغتيالات والاختطافات.ولأنهم ما عادوا يحتملون قسوة البيئة عندنا من لهيب صيف تقارب حرارته الستين مئوية وعواصف ترابية وفيضانات وسيول جارفة. كما أنهم ما عادوا يحتملون شدة الازدحامات المرورية وكثرة الانتظارعند نقاط التفتيش , ولاعادوا يحتملون انعدام الخدمات وانقطاع الكهرباء والماء لأيام متواصلة . كما أن عيونهم رقيقة جدا يزعجها رؤية أكوام المزابل المنتشرة هنا وهناك وهم الذين اعتادوا حياة الرخاء والرفاهية والأنظمة التي تؤمن لهم العيش الرغيد والطبيعة الخلابة في حاضرات الدول الغربية. واذا كان العراقي الذي تتكلم عنه همجي بطبعه فأنت همجي كذلك لأنك عراقي مثله قلبا وقالبا. وصيغة التعميم التي تستخدمها بحجة أن أية جزئية أو أية تفصيلات دقيقة تعمم على الجميع فهذا لايدل سوى على حقدك الدفين تجاه وطنك الذي نشأت فيه ونهلت من خيراته وتعلمت فيه ثم تنكرت له أنت وغيرك في الأيام العصيبة وفي أيام المحن والشدائد لتنعموا بما يفيضه الغرب عليكم وتقوموا بتقديم مهاراتكم وكل ما تعلمتموه لهم . لكن لكل شيء ثمن وليست هناك في المسألة شطارة. واذا كنت تتكلم عن السرقة واهدارالمال العام باعتبارهما ميزة عراقية صرفة ألا يعتبر التنصل عن خدمة الوطن وتقديم الكفاءات لدول الغرب سرقة وامتصاصا لأموال الوطن وهدرا لطاقاته ؟
بين فترة وأخرى ينبري واحد من هؤلاء المغتربين … بكلمات نابية تمس كرامتنا وكبريائنا وينشروا تعليقاتهم الساخرة على المواقع الالكترونية وكأنهم ليسوا عراقيين اصلا. لا أعرف لم لا تساهمون ولو بشيء بسيط في اعادة اعمار هذا البلد المسحوق بدلا من نشر ترهاتكم وتعليقاتكم المشينة ؟ وترى واحدهم بعد أن يمر بالبلد مرور الكرام يكتب مقالا في تلك المواقع يكيل فيها السباب والشتائم لمن يعيش هنا اذا واجهته بعض المنغصات التي لم يعتد عليها في بلد المهجر, وبدلا من المساهمة منه ومن غيره في اصلاح الواقع المريرالذي يعيشه أبناء جلدته تراه يفربأقرب فرصة ليعود ويتنعم من جديد بحياته الرغيدة هناك وكأن المسألة لا تعني عنده أكثر من توجيه انتقادات وملاحظات ساخرة يكتبها وهويستمتع بعبق الطبيعة الساحرة هناك. نحن شعب متخلف فلم لاتتركونا وشأننا ؟ أنت منفتح وأنا منغلق وأنت متنوربقيم التطور والرقي وأنا منعزل عنها لكنني على الأقل أساهم بخدمة الوطن وأبنائه على قدر الاستطاعة. ولا أريد أن أسرد في هذه العجالة الأساليب التي اتبعتموها في سبيل الحصول على اللجوء في تلك الدول والزجروالاهانات التي كان يوجهها لكم موظفوا مؤسسة اللجوء والأكاذيب التي افتريتموها على اولئك الموظفين والرشاوى التي دفعتموها وغيرها من الأمور التي تثير الاشمئزاز كل ذلك للارتماء بأحضان تلك الدول. والمؤكد لدي أن ما قصدته بالطبيب الذي بحاجة للتأديب هو طبيب الداخل الذي عانى ما عانى طوال العقود المنصرمة وتحمل ما تحمل وخدم أبناء وطنه وليس الطبيب المغترب الذي باع مهارته وكفاءته للآخرين مثلك ومثل غيرك من المغتربين. والحقيقة التي أقولها هو أنك ومن لف لفك بحاجة للتأديب ليتعلموا أن الوطنية الحقة هي خدمة الوطن وقت المحن والمصائب وليس أن يديروا ظهورهم له ويغدروا به. وللتاريخ أقولها واسمعها مني جيدا ان أطفالكم قد نسوا لغتهم وانسلخواعن تاريخهم ودينهم وتراثهم وثقافتهم وعن منظومة القيم والأعراف التي نشأتم عليها وبالتالي سينقطع ذكركم وربما نسلكم بعد جيل أو جيلين , بينما أولادنا هم لغتنا الحية وهم ديننا الباقي وهم تاريخنا المستمر وهم تراثنا وثقافتنا وعليهم وعلى أولادهم تنعقد آمالنا في اصلاح ما خربه الغزاة والعملاء والانتهازيون . هكذا علمنا التاريخ لك أن تؤمن بهذا أم لا فهذا شأنك.