هناك من يقول ” هذه هي الديمقراطية في العراق ” وهؤلاء عادة من بين الفائزين بغنائم الوضع ما بعد عام 2003 ( السلطة والنفوذ والمال ) عبر الآليات التي صممها ونفذها حاكم الاحتلال الأمريكي بريمر , وهي الانتخابات .. حيث لها مواسم وطقوس وشعارات ولافتات ودعاية واعلام .. ( فلماذا الانزعاج .. أليست هذه قوة العراق الجديد .. المخيفة للآخرين الذين يتربصون بالتجربة العراقية التي سبقت الربيع العربي ) . ولعلي في هذه السطور أحاول جدلاً الانسياق مع هذا التسويق للعملية السياسية وبالذات من قبل النافذين في الحكم العراقي ومديري شؤونه . ولكنني كما غيري من الذين تعلموا الثقافة الديمقراطية وقرأوا كتبها وأدبياتها وعايشوا تجربتها الغنية في بلاد الغرب وخصوصاً بريطانيا أحاول عرض أمثلة بسيطة وسريعة من التجارب الانسانية التي نحن جزءاً غير منفصل عنها خصوصاً بعد أن تحول العالم الى بيت صغير . وبالمناسبة طالعتني قبل أيام صورة وزير المواصلات البريطاني في إحدى الصحف اللندنية وهو يقف مجللاً بمعطفه الشتوي مواجهاً صقيع هجمة البرد التي اجتاحت بريطانيا هذه الأيام منتظراً في محطة القطار من دون حماية أو حرس , وهو ليس في حملة انتخابية , قارنته مع صورة أخرى فاجأتني قبل شهرين حين زرت بغداد بعد غياب إجباري لمدة عشرين عاماً وكنت برفقة صديق داخل المنطقة الخضراء , فقد نزل بصورة مفاجأة فصيل من الجيش امتد على طول الشارع فقال صاحبي هذا المسؤول خرج من سكنه وهو في طريقه الى مكتبه داخل المنطقة الخضراء .
نعم الآن موسم انتخابي لمجالس المحافظات ترافقه حملات المال السياسي والنفوذ الأمني والسياسي في الشارع العراقي .
ولكن أليس من الأولويات البدائية لاحترام المواطن تقديم الكتل السياسية كشفاً بالانجازات الوطنية العامة والانجازات الفرعية والمحلية , وهذا الكشف يتم عبر وسائل اعلامية يحترمها الرأي العام ويثق بصدقيتها , ثم تتحرك آليات المنافسة وتتصاعد وفق هذه المكانة لتصل مستوى التنافس على الجزئيات والفرعيات .العملية السياسية هي ذاتها منذ أن سلمها بريمر للحكام العراقيين والتي انتجت أول حكومة مؤقتة برئاسة أياد علاوي عام 2004 مروراً بحكومة الجعفري ثم المالكي لحد الآن .
هذه الحكومات أفرزتها حركات وأحزاب هي ذاتها تمحورت جميعها تحت راية الطائفية السياسية ومحاصصاتها . وبعد عشر سنوات من محنة المواطن العراقي بجميع أطيافه ومكوناته في انعدام الأمن والخدمات وطغيان الفساد المالي والاداري , ولا مجال هنا لإيراد الأرقام والفضائح والانتهاكات .. ماذا تقول هذه التشكيلات السياسية لشعب العراق لكي يعيد الثقة بها وبزعاماتها مجدداً ؟
ولكن الأخطر من ذلك كله إنه بعد عشر سنوات سبعاً منها تحت احتلال أجنبي عسكري للبلاد .. الصراع قائم على النظام السياسي وهويته , وآليات الحكم .. هل هي شراكة وتوافق أم أغلبية ؟ وهل الهوية للمواطنة أم للفرعيات الدينية والمذهبية والعرقية ؟
وبهذه المناسبة أستذكر مثالين من تجارب بلدان العالم الثالث في الديمقراطية , وخصوصاً دول امريكا اللاتينية التي تقترب ظروفها من بلدان العالم العربي السياسية : كفاح ضد الاستعمار واستقلال تحكمت فيه دكتاتوريات صنعتها الولايات المتحدة الأمريكية , ومثالها الساطع الدكتاتور الشيلي بنوشيت الذي أعدم المعارض الوطني ” آليندي ” في ظل المد الديمقراطي الليبرالي لمواجة الاتحاد السوفييتي السابق . المثالان اللذان كنت قريباً منهما ومن زعامتهما في كل من فنزويلا وبيرو . الأول صعود الراحل هوجو شافيز بعد فوزه في انتخابات نادرة عام 94 بعد أن تداول السلطة المنتخبة حزبان عريقان : الديمقراطي المسيحي والحزب الوطني لمدة خمس وثلاثين عاماً . دخول شافيز المعركة الانتخابية كان مفاجئاً وسريعاً بعد خروجه من السجن إثر قيامه بانقلاب عسكري فاشل على الحكم الديمقراطي عام 92 , ولم يصدر عليه حكم الاعدام كما في بلداننا وأطلق سراحه بعد سنتين حيث أعفى عنه الرئيس المؤقت رفائيل كالديرا صانع الدستور الفنزويلي , بعدها نزل شافيز الى الشارع الانتخابي تحت شعار محرر فنزويلا سيمون بوليفار دفاعاً عن جياع الخبز الذين يشكلون نسبة عالية في وقت تنعم فينزويلا بثروة النفط والثروات الطبيعية الهائلة حالها حال العراق , لكن النهب والفساد وبرعاية الأمريكان أنفسهم نخر البلاد , وفاز بانتخابات عام 98 .. هذا الواقع هو الذي جعل من شافيز منقذاً للشعب ووفق اللعبة الديمقراطية وحكم البلاد لمدة أربعة عشر عاماً . المثال الثاني كان في بلد أكثر فقراً هو البيرو حيث كسب اللعبة الانتخابية ” فوجي موري ” وهو رجل من خارج السرب السياسي ولايمتلك حزباً أو حركة سياسية .
هذان المثالان الواقعيان يشيران الى أن تجربة العراق الحالية لا تقترب حتى من حافات الديمقراطية , لأن الصراع هنا يدور على حالة ما قبل الدولة الوطنية .. صراع المكونات والثقافات الفرعية في بلد تجاوز منذ قرن مرحلة البناء الأولى للدولة الوطنية ,ثم ألغى الاحتلال الأجنبي ذلك البناء وشرّع تحالفاً معه ومع الطائفية السياسية المتخلفة ووضع أطراً ومنظومات وفي مقدمتها الدستور أصبحت أركان العملية السياسية وزعاماتها المتمسكين بها لحد اللحظة لكونها توفر لهم غطاء شرعياً للبقاء , ووفق ” مقدّسات العملية السياسية ” لا يجوز للمواطن أن يحتج أو يصرخ بوجه الظلم ومصادرة الحقوق . ولا يجوز للرأي العام المطالبة بإعادة النظر بمسار الخراب . وتلصق بتظاهرات ثلث سكان العراق شتى التهم , وأخطرها الخطاب الرسمي والحزبي القائل بإنها امتداد لنشاط إقليمي سني ( السعودية وقطر زائداُ تركيا) لمواجهة محور شيعي ( عراقي إيراني سوري لبناني حزب الله ) في حين إن من أولويات الانحياز للمواطن تتطلب الانفتاح الى مطالب الناس المحبطة وتلبية مطالبهم.
هناك إحباط سياسي وشعبي عام واعتراف بوصول العملية السياسية الى طريق مسدود , ووفق هذا المناخ الملبد بأعاصير مرعبة بعد سنوات العجز السياسي , نجد هناك إصرار على مواصلة منهج التمسك بالسلطة وتصاعد حملات الاسقاط السياسي في وقت أثبتت الأيام فشل جميع السياسيين أمام المواطن , ولا بد من تغيير جذري وشامل . ولا مخرج معتبر سوى العودة الى الناس برد اعتبارهم مما لحقهم من قبل القتلة والارهابيين وجناة الفتنة الطائفية , والدخول في مكاشفة حقيقية بما جرى في البلاد وتقديم نقد جريئ ووطني لتجربة العشر سنوات الماضية , والدعوة الى إعادة ترتيب معايير العملية السياسية عن طريق مؤتمر وطني عام لا يستبعد عنه أي وطني غيور على العراق وأهله , والدخول في خط شروع واحد عن طريق تشكيل حكومة انتقالية تدير شؤون البلاد لحين انتخاب هيئة وطنية تحضر لانتخابات عامة باشراف الأمم المتحدة , بعد استبعاد أية محاولة إقليمية للتدخل بالشأن العراقي . هذه المبادرة ستعطي أصحابها مكانة وطنية عالية ولن تضعفهم , صحيح إنها ستكشف حجوم الأحزاب والقوى السائدة ومستوى مكانتها عند الجمهور . وصحيح أيضاً إن من حصل على الغنائم والمكاسب لن يتنازل عنها . ولكن هذا هو الطريق للخروج من الكهف المظلم.