18 ديسمبر، 2024 5:10 م

من خلف لم يمت …تلك العبارة كثيرا ما كنت اسمعها وماكنت اعيرها اهتماما يذكر لاعتقادي ان الموت مثل الحياة حقيقة مؤكدة نعيش احداثها في كل حالة وفاة صغارا او كبارا رجالا او نساء.
قبل اليوم كنت شابا في مقتبل العمر, قوي البنية صحيح البدن ومثل جميع الشباب كانت لي احلامي وآمالي وأمنياتي التي اسعى الى تحقيقها ولم أنس إذ ذاك انني مسؤول ..اجل مسؤولية عائلية حملتها على عاتقي كوني اكبر اولاد ابي وهم بحمد الله كثيرون لكنني الاخ الكبير المطاع بينهم رغم انني ليست بكر ابيي إذ سبقني بالميلاد أخي (مجيد) الشقيق الشفيق الذي يدعى به والدي اذ ينادونه (ابو مجيد) ذاك هو الشهيد الذي اختاره الله تعالى شهيدا في سبيل الوطن في حرب اوقدتها الهمجية الرعناء.
……….
آه …تألمت إذ ارتسمت امامي صورة شقيقي الراحل …كم هو الفرق بيننا …إذ كان شقيقي مجيد وديعا محبا محبوبا يفيض حنوا وعطف وكان يخصني بالهدايا في كل اوبة له من الواجب .
اهمس لنفسي مخافة ان يتنبه لي والدي الذي يراقبني عن كثب (ليرحمك الله يا أخي)
السلام عليكم ..ورفعت يدي مسلما على والدي في ذلك الصباح الذي بدى لي حزينا كئيبا كيف لا وها هي زوجة أخي مجيد (أرملته) تلملم اشيائها وتحزم حقائبها استعدادا للرحيل.
الى اين…؟
قال لها ابي معاتبا
خفضت بصرها الى الارض وانحنت برأسها هامسة …الى دار أهلي فلم يعد لي مجال للبقاء بعد ان رحل الغالي.
. عاتبها قائلا:- السنا اهلك وهل بدر منا ما يضيرك خلال السنوات السبع التي امضيتها برفقتنا ..لم تجب ..لكنه سبق له ان سمع الجواب ..امرأة ارملة ليس لها ولد ..ماذا يمكن ان يشدها للبقاء مع اسرة زوجها المتوفى..؟
انا أذكر جيدا انها كانت مثال المرأة المطيعة الحنون والتي لم تقصر في واجباتها اتجاه اسرة زوجها سواء كان حاضرا او غائبا وأعلم ان مصابها به وفجيعتها كادت ان تودي بحياتها حتى انها ولفترة طويلة حرمت نفسها الرقاد في فراش وثير إذ كانت تترك الفراش وتنام على الارض قائلة ان مجيد ينام الارض وانا اواسيه ما دمت حية سوف لا انام على فراش وثير, اواسيه بأن تكون الارض فراشي. لكن ذلك الامر لن يستمر مثلما لم يستمر امتناعها النوم والطعام والشراب.
….
اقول للمرة الثانية…لا شيء يدوم على حاله
اجل ها هي اليوم تحزم حقائبها وتستعد للرحيل ..ليس لي ان أمنعها
فقط اختنقت بعبرتي وتابعت خطواتي نحو ابيي ووضعت يدي تحت كتفيه كمن يسنده وخرجنا معا من الصالة تاركين امي تنهنه عبراتها وهي تشاهد والد ارملة ابنها يستحثها الخروج اليه.
..انه صباح كئيب لا ينسى.
صباح اعاد علي وعلى اسرتي فجيعتنا يوم استقبال جثمان الشهيد…وكانت الحسرة الكبرى انه لم يرزق بولد خلال السنوات السبع من الزواج ,ولد كان او بنت. ولم يكن اخي الشهيد يأبه للأمر او يبدي حزنا امام زوجته إذ عمد الى كتمان الم الحرمان مخافة ان يجرح مشاعرها…آه …لقد كان ملاكا بصورة انسان .
هذه ارادة الله.. فماذا يمكن ان نفعل…؟
طرق سمعي صوت والد ارملة اخي وهو يقدم هذه الكلمات كأنها اعتذار عن امر قدم اليه ويشعر في اعماقه انه قد تعجله ولم يترك فرصة مناسبة لتأخذ الامور مجراها.
رفع اليه الاب الثاكل عينين مليئتين بالدموع وتحشرج صوته وكأنه يصدر عن غير حنجرته او صدره…
هذه ارادة الله تعالى …لاحول ولا قوة الا بالله
تعثرت خطوات المرأة وتباطأت وهي تسير محاذية والد زوجها الراحل
فعاد والدها للقول
انها لا تريد الرحيل الا بأذنك يا حاج
أأذن لها بالخروج وكذلك لتفعل اهلك(يقصد والدة الشهيد)
تنبهت لوجه امي الواقفة على مسافة منهما ولاحظت وجهها القاني الذي يبدى مدى تأثرها لرحيل كنتها الاثيرة لديها رغم انها لم تسعدهم بالولد وما كان لها ان تعترض فشابة في مقتبل العمر لا يمكن ان تظل في بيت عائلة الزوج سيما وهي لم ترزق بأولاد
هتفت أمي بكلمات متسارعة وكأنها حشرة الموت وكأن انفاسها خرجت مع كل حرف نطقت به شفتيها
الله معك ,سنظل نحبك حبنا لولدنا الغالي ,لا تجافينا لنراك بين الحين والاخر.
تقدمت اليها وقبلتها وهمست اليها:- تعلمين انك غالية علينا.
قال والدها بنزق وكأن طول فترة الاستئذان ازعجته…عن اذنك يا حاج
وتوجه لابنته آمرا:-
هيا يا ابنتي فأن اخيك ينتظرنا بالسيارة
….
مضت ترافقها الدموع عن بيت استقبلها قبل سبع سنوات ونيف بالفرح والزغاريد .
مضت بهم السيارة مسرعة كما مضى سهم الزمن وكان لكل حياة.
هنا عرفت معنى من خلف لم يمت فحين خرجت ارملة أخي لم تترك لنا طفل منه يجدد ذكراه العطرة رغم انه يعيش في قلوبنا .