أبلغنا الدكتور عبد الستار الراوي صباح الاحد الحادي عشر من حزيران برحيل رائد من رواد الفلسفة في العراق وأحد كواكبها العملاقة الأستاذ الدكتور حازم طالب مشتاق!!
وبرحيل هذا الرجل الفريد في علمه وفي خلقه وفي فضائله تكون بلدان العروبة قد ودعت إحدى أبرز الرموز الكبيرة التي أرست معالم الفكر العربي الرحب المنطلق الى حيث آفاقه الرحبة ، التي أرسى معالمها وبذرتها الأولى والده المرحوم طالب مشتاق الذي كان هو الآخر شعلة التوهج الفكري العربي الناصع البياض!!شاءت الاقدار الجميلة منتصف السبعينات ان يكون الاستاذ الدكتور حازم مشتاق احد ابرز مدرسي قسم الاعلام بكلية الاداب جامعة بغداد ، وكنا ننهل من فلسفة هذا الرجل الكثير، فقد كان غزير المعرفة ، متعمقا في علوم الفلسفة ونظريات منظريها القدامى والمحدثين، ومن اسهموا في نشر لوائها ، ووضعوا لها اللبنات الأولى لبنائها الشامخ ، حتى اوصولها الى تلك المكانة التي راح المجتمع الانساني يرتشف من عبقها مايغذي قريحته وتطلعاته الى حيث المعالي والقيم الرفيعة، مايرفع منازل روادها ومريديها الى السماء!!
كان الرجل مولعا بالحفاظ على العروبة وقيمها ويرتقي بها الى الدرجات العلى ، تصل حد تقديسه لها، وكيف لا وكان والده أحد رموز القومية العربية ومن وضعوا أولى بذرات تكوينها النظري المعرفي، يوم لم يكن لها إطار نظري يحفظ لها هويتها، أو يخط لها طريق انطلاقتها الى عالمها الرحب وفضائها الاسلامي السمح ، حيث تعانقت العروبة مع الاسلام لتكون شرابا صافيا رقراقا يسحر القلوب ويروي الافئدة الظمأى المكتوية بعشق العروبة ، حتى ليسحرك بتلك اللغة الفلسفية التي تجمع بين الفكر والنظرية والتطبيق لتوازي نظريات كبار منظري الفلسفة في ذلك الزمان، وكانت الحضارة اليونانية وحضارة الأغريق وما تلاه من عصور متأخرة ايام الثورة الفرنسية، لتكون المنطلق لتلك الإرهاصات التي شجعت كل محب لهويته القومية ان يجد مبتغاه في ان يكون لوجوده معنى ولهويته شرف الانتماء ، لكل هذه الحضارة العربية الضاربة في اعماق التاريخ والتي نهلت منها حضارات العالم ومنها اليونانية والأغريقية مايرفع رأس كل عربي مخلص امين الى السماء!!
كانت محاضرة الدكتور حازم طالب مشتاق لطلبة الصحافة انذاك مادة تختلف عن كل مواد القسم من حيث قدرتها على تفجير مكامن الابداع والشوق والتطلع الى الفكر الانساني المتفتح ونظريات كبار رجالات الفلسفة واصول هذا العلم الحيوي من العلوم الانسانية الرفيعة التي تكاد تعلو على كل العلوم!!
ربما لم تسعفني الاقدار ان أتعلق بموهبة أستاذ وفكره العروبي النير الساحر للقلوب وللأفئدة ولكل عشاق الفلسفة والثقافة والابداع مثل ما سحرني هذا الرجل واحتل مكانة في قلبي تصل منازل الصديقين، ومن أسهموا بأن ترتفع رايات الفكر الانساني المتفتح الى أعالي السماء!!
وماذا عسانا ان نكتب، بحق الرجل ..وماذا سنكتب بيوم تأبينه ، فقلمي ومشاعري ترتجف خجلى أمام هذا العالم والرائد الفلسفي والكوكب المتألق في سماء العراق والعروبة، لكنني أبقى فخورا بالاقدار الجميلة التي جمعتنا بهذا الرجل، منتصف السبعينات، بقسم الصحافة وهو كان أحد المع الاستاذة بقسم علم الفلسفة بكلية الاداب بجامعة بغداد ، وكان الدكتور طه جزاع ، وهو احد رواد الصحافة حاليا ، طالبا في ذلك القسم الذي ، برز فيه أساتذة لامعون، كان الدكتور حازم طالب مشتاق أحد تلك الأقمار المنيرة، التي مازالت ذاكرتنا تحتفظ لهم بالكثير مما يرفع من منازل هؤلاء الاخيار الميامين، الذين تجاوزت مؤلفاتهم الفكرية والفلسفية الخمسين عنوانا كما يقال!!كان الرجل مولعا بافكار كل النظريات القومية ووجه انتقادات كثيرة لمن حاولوا التجاوز عليها، او التقليل من شأنها وانتقد نظريات ماركس ، التي حاولت ان تلغي هويات الشعوب واطارها القومي، وانتقد منظرين آخرين وجوديين الغوا الهوية الانسانية، او حاولوا طمسها او تذوبيها بين الافكار ، وكان الرجل مولعا بهتلر لحبه للقومية الألمانية ، بل كان كتابه الشهير ( كفاحي ) أحد ابرز معالم الفكر الرحب الذي يجد فيه كل متطلع الى الانسانية ان فكر الرجل كان صادقا يقطر وطنية وحبا لبلده يعشقه حد الهذيان، لكن الطمع الاستعماري الذي وقف بوجهه وميله للدكتاتورية وللغطرسة في نهاية عصره هو من أودى بالفكر الألماني القومي، في نهاية المطاف ووجدت فيه بعض الدول الاستعمارية فرصة النفاذ اليه لاستهدافه، والحاق الهزيمة به، لكن الفكر القومي لهتلر لم يغب عن ذاكرة كثير من الألمان وفيه من ملايين هذا الشعب العريق من لازالت تقدس هتلر، أو تحفظ له في ذاكرتها بكثير من الاعتزاز للبطولة الفذة وللوطنية الصادقة التي عبر عنها الرجل في كتابه كفاحي، ليكون أحد روافد الفكر الانساني، الذي ما إن تتمعن في ثناياه حتى لتتخيل انك امام رجل وطني فريد من نوعه، في زمن كانت الرجال تحافظ على أوطانها وشعوبها وترتقي بهم الى حيث التطلعات المشروعة، والقيم العليا لكي لاتسقط هيبة شعوبهم امام تحديات الشر ومن يريد النيل منهم او يمس كرامة شعبهم ، فمات الرجل والتاريخ يحفظ له انه بنى امبراطورية ألمانية شامخة كانت تهابها الدنيا وتضع لها ألف حساب، وها هي مستشارة المانيا ( ميرغل ) تعيد بناء تلك القلعة بكل إباء حتى وان لم تعلن انها (هتلرية) لكن أفكار هتلر تبقى زاد الالمان المحبين لقوميتهم والمقدسين لها ، وهو حق لهم ان يتفاخروا به بين الامم!!
لانقول وداعا ايها الاستاذ الكبير الدكتور حازم طالب مشتاق ..لأن ما تركته من تراث زاخر ورحيق يملأ أجواء الثقافة والفلسفة وعبقها، مايخفف عنا عبء المصاب الجلل، يوم افتقدناك ، لكنك ستبفى بين جوانحنا حيا تتدفق دما ونبضا عروبيا صافيا رقراقا، فلك من كل محبيك ومن كنت معلمهم الجليل كل محبة وتقدير..ايها الكوكب الدري يامن كان شعاع عروبتك ونبعها المتدفق الأصيل يملأ شغاف كل القلوب وعشاق الفكر والأدب والثقافة، وها أنت تبقى بيننا ، ترتشف الاجيال من عبق موروثك الفكري مايرفع شأنها الى حيث أعالي المجد وقمم الكبرياء!!