رحلت قبل ايام الملكة إليزابيث الثانية عن هذه العالم الى العالم الاخر عن عمر 96عاما. ارتفعت الكثير من الاصوات في العالم؛ وهي تبجل وتمجد وتثني وتشيد بدور الملكة الراحلة في صانعة التأريخ والامن والسلام، من رؤساء الى ملوك من اغلب دول العالم بما في ذلك دول عالم الجنوب، مرورا بالكتابات والتحليلات السياسية، وهذه الاخيرة تشكل الركن الاهم في موضوع هذه السطور المتواضعة. البعض من تصريحات المسؤولون تدخل في خانة البرتوكولات السياسية والدبلوماسية المتعارف عليها، لكن هناك اخرى؛ لا تدخل في هذه الخانة، إنما تدخل في باب القصد السياسي المؤدلج. جميع، أو لجهة الدقة، اغلب هذه الاصوات والكتابات والتحليلات السياسية؛ كانت تشيد بفترة حكمها او بفترة توليها العرش الملكي في المملكة المتحدة؛ وانها كانت قد لعبت أدورا تاريخية مميزة، سواء في العالم او في المملكة المتحدة، في مقاربة غير موفقة بالدور التاريخي للملكة إليزابيث الثانية؛ في مسارات التاريخ ومتغيراته في فترة توليها العرش البريطاني. ان المحافظة على العرش الملكي البريطاني، ما هو الا للمحافظة على وحدة بريطانيا من التفكك والتشظي في دولة تتكون من خمسة مقاطعات. هناك على الاقل مقاطعتان ترومان او تسعيان الى الاستقلال عن التاج البريطاني، هما اسكتلندا وإيرادنا الشمالية، الاخيرة خاضت حربا خلال اكثر من اربعة عقود،( الجيش الجمهوري الإيراندي السري) الى ان تمت التسوية وبمساعدة امريكا قبل، ما يقارب العقدين، في يوم الثلاثاء، والذي سمي في وقتها؛ بيوم الثلاثاء العظيم. اسكتلندا هي الاخرى كانت قبل سنوات قد اجرت استفتاء على الاستقلال لكنها لم تتمكن من الحصول عليه من خلال هذا الاستفتاء. مع هذا ظلت اصوات الشعب في اسكتلندا تنتظر يوما ما، ان تجري استفتاءا يمنحها الشرعية بإعلان استقلالها عن المملكة المتحدة. عليه فان بريطانيا او المملكة المتحدة الى الآن؛ ليس فيها دستور، بل ان ما فيها هو عرف دستوري، لكنه مع هذا هو اقوى لجهة العمل به على ارض الواقع؛ من اي دستور مكتوب اخر. السؤال المهم هنا؛ لماذا كل هذا التمجيد لملكة ليس لها اي تأثير على سياسة بلدها وهنا ان ما اقصده هو التأثير الفعال في انتاج المواقف، والاجراءات العملية سواء، في داخل بلدها، المملكة المتحدة، او في العالم الذي شهد خلال توليها العرش الكثير من النزاعات والحروب والذي كان لبريطانيا اما الدور الكلي او الدور الجزئي فأنها حكما ليس لها علاقة، اي وجودها على كرسي العرش البريطاني؛ بمسارات التأريخ وتغيراته وتحولاته، الحادة والكثيرة في اثناء فترة حكمها. وهنا لا اقصد على وجه التحديد، انسانية الملكة مهما تكون ما هي عليه من انسانية، بل ما اقصده تحميلها ما ليس له علاقة بموقعها الرمزي على كرسي التاج البريطاني. أما اذا كان الامر او الاوضاع هي بخلاف هذا، اي انها اي الملكة لها دورا فعالا في الاحداث سواء في بريطانيا او في العالم؛ ففي هذه الحالة يختلف الامر برمته لناحية، عند اجراء تقييما موضوعيا وعادلا؛ لمراحل توليها العرش خلال اكثر من 70 عاما. بريطانيا اذا ما اهملنا استعمارها للكثير من دول العالم والذي شكل في حينها ما كان يعرف ببريطانيا العظمى التي لا تغرب عنها الشمس اي انها تسيطر على دول كثيرة عسكريا وسياسيا واقتصاديا في جميع اركان الكرة الارضية. تاليا بعد انتهاء مرحلة الاستعمار؛ قامت بريطانيا العظمى بالكثير من العدوانات على الدول والشعوب، سواء بصورة مباشرة او بصورة غير مباشرة، على سبيل المثال لا الحصر؛ العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956مع فرنسا والكيان الاسرائيلي او في مشاركتها الفعالة في احتلال العراق مع الولايات المتحدة ودول اخرى صغيرة لا قيمه لها من ناحية الفعل العسكري المؤثر، وجودها فقط ، أو مشاركتها؛ لمنح الغطاء الشرعي لهذا الاحتلال؛ على اعتبار ان هناك دول كثيرة ساهمت مع بريطانيا والولايات المتحدة في احتلال العراق. أذا، في هذه الحالة تكون الراحلة في موقع الادانة لما قامت به، أو بقرار منها؛ من غزو واحتلال وما نتج عن هذا من جرائم بحق العباد والزرع والضرع والاوطان.. الشيء هنا المهم وهو الملفت للانتباه؛ ان هناك دول عانت الكثير من المعاناة بسبب السيطرة الاستعمارية عليها، وفي البعض منها تصل الى حد استغلال الانسان بطريقة مهينة جدا، من امثال العبودية.. يقوم المسؤولون والكتاب، في هذه الدول بالتمجيد والثناء على الدور الذي لعبته ملكة بريطانيا العظمى، على اعتبار ان الراحلة كانت في وقتها هي صاحبة قرار الحرب والسلام واي قرار اخر، في مناقضة صارخة للواقع. اذا سلمنا جدلا بان الراحلة او الملكة البريطانية التي توفيت قبل ايام، كانت هي افتراضا؛ صانعة السياسة في بلدها؛ يكون عندها هؤلاء المسؤولون والكتاب والمحللين السياسيين؛ قد نسوا جرائم بريطانيا العظمى بحق اوطانهم وشعوبهم، ولم تعتذر المملكة المتحدة كما غيرها من الدول الغربية عن مراحل الاستعمار حتى الآن؛ لأن هذا الاعتذار يتبعه، أو يفرض عليهم فرضا؛ تعويضيات للضحايا من الاوطان والشعوب والناس بالشكل العام. بريطانيا كما فرنسا؛ قاتلا في الحربين العالميتين بجنود تم تجنيدهم من السكان في مستعمراتهم، وكانت بريطانيا هي الاكثر في استخدام الجنود وقودا في الحرب لخدمة اهداف ومصالح بريطانيا في الحربين العالميتين، وحتى في اجتياحها واحتلالها للدول الاخرى. الاعلام الغربي بماكنته الاعلامية الضخمة والواسعة الانتشار والتأثير، والقادرة بجدارة وحرفية علمية، اي مبنية على اسس علمية مؤثرة في صناعة رأي عام؛ قامت بهذه التغطية الاعلامية الضخمة جدا، في تجميل صورة بريطانيا في تأريخها الاستعماري، وفي حروبها لاحقا على الدول والشعوب في جميع زوايا واركان الكوكب. اذا ما وضعت جانبا في نعي الملكة البريطانية الراحلة؛ المشاعر الانسانية والتي هي محل احترام مهما كانت دوافعها في الشق الانساني حصرا، لكن لم تكن هذه المشاعر؛ دوافعها الكلية؛ هي المشاركة الوجدانية في الحزن والألم للعائلة الملكية وللشعب الانكليزي، بل ان هناك اهداف اخرى، من هذه التغطية وما صاحبها من تصريحات وكتابات وتحليلات سياسية؛ جميعها تشيد بالراحلة ودورها التاريخي في صناعة تاريخا مجيدا ومشرفا، ليس لبريطانيا فقط بل للعالم؛ هو مسح، او التحايل على التأريخ في محاولة لإزالة اثار الجرائم والفضائح والفضائع، من على وجوه هذا التأريخ الاستعماري البريطاني، وحتى بقية تأريخ واثار الاستعمار لبقية المستعمرين الغربيين. في هذا الاتجاه الاعلامي الغربي الممنهج والمدروس والمعد سلفا، ومنه وليس اخره؛ هذا النعي والتشيع الفخم، هو محاولة بائسة لبث الروح في جسد بريطانيا العظمى، المهددة بالتفكك.. هناك على هذا الطريق في الاعلام وفي غير الاعلام؛ لإزالة القبح وجرائم العار الاستعماري بحق الشعوب والاوطان التي ابتليت بالاستعمار، وتاليا بأدواته التي قام المستعمرون في صناعتهم قبل رحليهم وان لم يرحلوا من على ارض الواقع عن طريق تولية وكلائهم في الحكومات التي تشكلت بإرادتهم. تُوصف مراحل حكومات الوكلاء هذه، من قبل البعض من الكتاب والمحللين السياسيين؛ بانها كانت اجمل واكثر تنمية وسلام واستقرار من المرحلة التي أعبقتها، اي مرحلة الثورة على هؤلاء الوكلاء.. هذه مغالطة وتحايل على الواقع المعيش في حينها، وطمس لهذا الواقع ودفنه تحت تراب وطن لم يشهد اي شكل من اشكال التنمية على صعيد الانسان والوطن في مرحلة حكومات الانابة هذه، عن الاستعمار في حكم الوطن والشعب، بل ان العكس هو الصحيح. أن هذا التوجه الاعلامي والسياسي، والكتابات والتحليلات لمرحلة حكومات الوكلاء، ما هو الا؛ لحرف حقائق الامور والاوضاع في تلك الدول، والتي منها؛ دول المنطقة العربية. صحيح ان الحكومات التي جاءت بها هذه الثورات؛ صارت لاحقا حكومات دكتاتورية، صادرت حق الناس في التعبير عن آرائهم، وصادرت عقولهم في التفكير ليكون عقل الدكتاتور بديلا عن عقول الشعب بالتفكير. على سبيل المثال ليس الا؛ النظام الملكي في العراق؛ كان يشكل ادارة حكومية، للاستعمار البريطاني في حكم البلد بالإنابة عن بريطانيا، ولم تكن هناك اي شكل حقيقي من اشكال التنمية على صعيد الانسان والوطن، وعلى صعيد تحرير طاقة الانسان في العمل والانجاز وفي التفكير الحر، ولو انه كان هناك هامش ضروري منه على هذا الطريق؛ كي تظل الاوضاع تحت السيطرة. ففي ظل النظام الملكي؛ كان الشعب العراقي في المدن، يعاني شظف العيش والحياة، وانتشار الامية والجهل والفقر. أما في الريف العراقي فقد كان الامر والاوضاع على اشد ما تكون عليه؛ بؤس الحياة وفي جميع مجالاتها. فقد كان هناك في الريف؛ سيطرة الاقطاع على جميع مفاصل الحياة هناك، وهي ليست سيطرة على الارض فقط، بل وبنتيجة هذه السيطرة حكما، لناحية حاجة الفلاح الى المال المكتنز في جيوب الاقطاعي الذي يمد به، بقدر الفلاح المغلوب على امره؛ ليشكل طوقا يحكم به شد رقبة الفلاح. مما انتجت سيطرة الاقطاعي على الارض؛ سيطرته على الانسان في حرية الحركة والانتقال الى حيث يريد ان يسكن ويعيش، الا من يهرب من الظلم في جنح الظلام، ظلام الليل.. ان هناك من الكتابات والتحليلات السياسية من تقوم متطوعة في تجميل حكم الوكلاء هؤلاء، لجعل الناس وبالذات من هذه الاجيال الحالية التي لم تعش مرحلة النظام الملكي في العراق. في قناعة هذه السطور؛ ان هناك، في الخفاء؛ خطط لجعل او لتصوير مرحلة حكومات الإنابة الاستعمارية، اجمل ما مر على هذه الشعوب وهنا اقصد شعوب المنطقة العربية، وبالذات دول (الربيع العربي)؛ لتخليق واقع ورأي عام شعبي، يرحب بحكومات الوكلاء الجدد، بما سوف تفضي، ولو بعد زمن ما، الفوضى والاضطراب والاقتتال الى الحلحلة والتفكيك؛ الى توليد حكومات الظل الاستعماري بثوب حداثي وعصري يتلاءم ويتناسب مع متغيرات العصر هذا وتحولاته.. فاذا كان رحيل الملكة البريطانية عن هذا العالم؛ هو رحيل لرمز بريطاني وعالمي؛ فهو رحيل لرمز القهر للشعوب وظلمها ونهبها. واذا كان رحيل الملكة البريطانية، هو رحيل لقوة قوية في صناعة السياسة وما له علاقة بها؛ هنا تكون الطامة اكبر واشد مرارة..