المدخل الاول : نعي وتفجع
﴿كلُّ نفسٍ ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون﴾ سورة العنكبوت – آية 57
يوم الخميس 10 تموز 2014 , المصادف الثاني عشر من رمضان المبارك سنة سنة 1435 هجرية , يوم توشح بالحزن والقنوط , يوم أصّر على التفجّع والنعي . في هذا اليوم خلع الشاعر حسين عبد اللطيف كل مايدعيه في الأدب من تفوق وحكمة , غموض وغلو , بساطة وترو ولين وكل المامه بدقائق المعاني في الشعر والنقد , وكل شواهده على أيقاعات التفعيلات التي تهادت اليه فسمعها ورددها من حس الى آخر في تخوم حزنه العميق ومديات وحدته وعزلته , فكان يكتبها وينطقها أثر تجربة يومية متواصلة ورأى سعادته في مجاميعه الشعرية , حتى يخيل للكثير أنه عالم بمفرده في الحس والحواس , تاركآ صناديق كتبه وأوراقه وأحلامه وكل شئ ثم جلس ينتظر ليلتحق بقطاره الذي ناشده : الى أين تمضي بركابك الميتين … وانت تجرجر هيكلك المتداعي الحزين .. تراك تركت الصناديق مقفلة وثقيلة وفيها الزهور الجميلة زهور الصبا والطفولة – أغنية قطار الحمولة – .
في هذا اليوم التموزي البصري القائظ , ضاعف حسين عبد اللطيف في شحوب وجهه , نازعآ من الحياة الى وداعها وكأنه يستبطن شيئآ يريد قوله , شيئآ عبّر عنه كثيرآ في قصائده بأنفعال شاعر أصيل , لكنه أصّر أن يقلب معناه كعادته متصديآ له بكل مايمتلك من نزعة الفارس الاديب والوعي الخلّاق الذي تجسد في وحدة نصوصه وسويته الفكريه , ولكن الذي تولى أمر صديقه الراحل محمود البريكان ومحمود عبد الوهاب وعبد الخالق محمود وأحمد الأمير ومحمد طالب وأسماعيل خطاب وغيرهم يوشك هذا اليوم أن يتولاه . فتحقق في ساعة منتصف النهار , فسقطت ورقته – هي الأخرى – من شجرة الادب بعد أن أنهكه المعنى وأماته كما فعل بأصدقائه .
هذه هي عباءة الموت الذي يعرفه ويعرف أوان زيارته للآدباء ومايحيط بهم , جاءت لتلفه , إذ لم تعد الكف قادرة على حمل القلم , ولا الكلمات تقود الى الادلال , فصمتت القصيدة ( أما أنا فقد وضعت أوزاري من عساي أكون بأفعالي وردود أفعالي ؟ حسبي إغفاءة أسدلوا الستائر – أمير من أور) . فأرتفعت شمس النهار نحو الذروة لتثير دهشته ووحشته , ثم أبتعدت بعيدآ ليسقط من دون أن يّرف قلبه أو يضطرب فوق أوراقه وكتيباته ,فنام حتى تبعثر كل شئ في هواء غرفة الظهيرة . أنها الساعة الحتمية , حتمية المصير البشري . فحملناه على أكتافنا – تزفه الرياح – اسمآ وابنآ ومدينة خصبة وتراثآ كبيرآ نحومصيره ( أيتها العربة ذات الخيول المطهمة أنطلقي لقد قضي الأمر ولا سبيل للآستدارة او الرجوع – أمير من أور )
رحم الله حسين عبد اللطيف , فقد كان قاضيآ عادلآ , يحكم بين الكلمات ببعده الأنساني والادبي بإيثار لناموس الكلمة , على غرار مادأب في كتاباته , وبألمام شاعر ووراق صنعته ليالي القراءة والكتابة وصاغته التجربة الانسانية , فكان في قوله ذكاء وفي لفظه نغم وتجانس , فجسد لوعة الزمن بجسدة الهزيل وأساه وحزنه وعزلته بشعر وأحساس جميل , ولغة شاعرأمتلك القدرة الشخصية فاستطاعت ان ترسم هذه الخصائص النفسية بقصائد سجلت أسمه كنسقآ خالدآ بين أنساق الادب البصري – العراقي الاصيل .
المدخل الثاني : قطاره الشعري
يرتبط جيل شاعرنا بجيل نهاية الستينيات بأمتداداته الافقية , إذ نشر قصيدته الاولى بعنوان ” الصّبار ” في مجلة ” عبقر ” النجفية سنة 1967 وكانت مهداة الى الشاعر سعدي يوسف ثم نشر قصيدة ” الفرارة ” سنة 1969 , وقد تعرفت عليه شاعرآ في ريعان الشباب بوساطة الفنان الكبير ذياب خليل سنة 1974 ولكن من دون أن ألازمه أو أتعرف على شعره . ثم التقيته بعد السقوط مباشرة عندما كان برفقة حلقة من أصدقائه الأدباء , يرتادون مقهى في وسط ساحة أم البروم . وبدأت معه علاقتي الأدبية من خلال عرض البعض من أعمالي التي كنت أحتفظ بها . فشجعني على نشرها بعد أن أبدى أعجابه بها وقام بتصحيحها لغويآ وكان يردد كلمته المحببة لي ” بداعة ” .
أستمرت علاقتي به حتى الساعات الاخيرة من يوم وفاته , إذ أتصلت به عند الساعة العاشرة والنصف صباحآ لأخبره عن نشر مقالة لي في موقع كتابات بتاريخ 9 تموز 2014 بعنوان : البناء الخارجي والداخلي للقصيدة تأسيس لثقافة القاريء , وهي قراءة في شعر حسين عبد اللطيف : ” لم يعد يجدي النظر ” و ” أمير من أور ” أنموذجآ. سّر شاعرنا لهذا الخبر وطلب مني أرسال نسخة من المقال له , لكنني فوجئت بخبر وفاته عند الساعة الواحدة ظهرآ لليوم نفسه , وقد أبلغني به صديقه الاستاذ عباس محسن .
تشبثت بعربات قطاره الشعري متأخرآ في بادئ الامر عندما كانت مؤلفة من مجموعته ” على الطرقات أرقب المارّه ” المنشورة سنة 1977 , ثم مجموعة ” نار القطرب ” المنشورة سنة 1995 . والمجموعتين من منشورات وزارة الثقافة والأعلام . إلاأنني لحقت بعرباته اللاحقة بعد ذلك , حيث نشرت له مجموعة ” لم يعد يجدي النظر ” سنة 2005 عن دار الجمل – المانيا , ثم ” أمير من أور ” سنة 2010 عن دار الينابيع , ثم “بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميتة -متوالية الهايكو ” سنة 2012 عن منشورات وزارة الثقافة – بغداد – وكتبت عن هذه المجاميع في صحف مختلفة , ثم نشر ” كتاب التساؤلات ” عن دار ازمنة 2014 وهو عمل مشترك مع الاديبة المترجمة سحر أحمد , واخيرآ كتاب ” مقدمات السياب ” 2014 عن وزارة الثقافة – بغداد بعد وفاته بثلاثة أيام .
في نهاية منجزه الشعري – إن لم يكن بعد نار القطرب – لجأ بشكل واضح بالتطلع الى رؤية فنية ذات رحاب وتراكيب لغوية جديدة , مختلفة عما قي مجموعته الاولى , الى رؤى لغة تدعوا الى التحديث في قوالبه الشعرية . فأطل على نافذتين , الاولى كانت نحو الغرب أثمرت عن مجموعته ” أمير من أور ” . كانت قوالبه الشعرية في هذه المجموعة ذات تأثير واضح لقوالب قصيدة ت س اليوت الارض اليباب و ” الأناشيد ” لعزرا باوند حيث ضمنها بأشارات وأسماء وأماكن ونتف من اللغة الالمانية .
أما الناقذة الثانية فكانت نافذة نحو الشرق – اليابان – لتأثره بالشعراء أمثال ماتسو باشو و ماساوكا شيكي فأثمرت كذلك عن مجموعته ” متوالية الهايكو ” مجسدآ فيها التأثير الواضح للمعايير الخاصة بقصيدة الهايكو اليابانية ولكن ببيئة عربية – عراقية ومزاج وأنطباع فتى بصري , يحمل في قلبه منذ دخوله ميدان الادب , حبآ روحيآ , مرهفآ للبيئة البصرية المتمثلة في منطقة جسر العبيد و نظران والخليلية والصفاة ومحلة الباشا ومقهى الشناشيل وقبلها مقهى باب الزبير وساحة فنجان – التي أمضى جلّ حياته في أزقتها – لماتحمله هذه الاماكن من عبق الاصالة والمصاحبة والوجود . تلك البيئة التي طالما بهرته أزقتها وترديدات أطفالها القديمة , فحفظها وعشقها صورآ في مخيلته فشكلت البداية لشخصيته .
يعتبر هذا التحول عن الثوابت القديمة لمجموعتة الشعرية ” على الطرقات أرقب الماره “- أي في نمط القوالب الشعرية – إنما هو الاهتمام بالتحديث ( = الحداثة ) وليس تحولآ في
الذائقة السائدة للنظرة الى الشعر العربي بمعاييره المعروفة , و أهتمام نحو قواعد أخرى للشعر وهذا هو جوهر الامر والاستمرار في النشاط الادبي بما فيه الاجابة عن اسئلة كثيرة تطرحها قصائد الهايكو مما تحتاج الى الاجابة وفق الاصالة العراقية – العربية . وبمعنى أدق فقد أهتم في فكرة ربط الانساق الثقافية العالمية المختلفة ببعضها البعض ليستمر التدفق الادبي بين الشعوب والارتباط بالينابيع لتشكل خارطة الادب الكونية من ناحية , والبحث في الثقافات الاخرى بما يغني التجربة من ناحية أخرى وهذا – ربما – يشكل رأيآ يصفق له الكثير من صنّاع الكلمة , لكنني أرى – أضافة الى ذلك – أن شاعرنا الراحل كان دائم البحث عن الانفراد في تجربته الشعرية وأغنائها , وهذا ما جعله شديد الاهتمام ببناء القصيدة التي تبحث في الظاهر والمتخفي مما شكل جوهر فلسفته الشعرية والمنحى الرئيسي الذي كتبت فيه قصائده التي منحت أسمه كشاعر شهرة مبكره من بين مجاييليه وخلقت جمهورآ توافقيآ مع نصوص قصائده منذ أن نشر بواكير شعره في مجلة عبقر النجفية و” الآداب ” و “مواقف ” اللبنانيتين .
يعتبر هذا التوجه الذي اقتحمه شاعرنا الراحل بمثابة الانفتاح على مناطق أخرى للتعبير عن وجود الانسان , وتجربة كوزموبوليتانية من الدرجة الاولى بين أوساط من كتبوا في هذا المضمار من دون أن يتحيّز لها , وهي من ناحية أخرى أمكانية أخرى لنتاج تفكيره الجديد وصياغاته الشعرية العقلانية , فجاءت قصائد الهايكو بمثابة أجوبة تجسد الخيال المستفز والتفاعل الفكري والفلسفي الذي سببه الاختراق الذهني لقصائد الهايكو اليابانية , وهذا أخطر تعبير للعلاقة بين الوجود الذي يمثله الشاعر والعمل الذي تمثله قصيدة الهايكو . فكانت النتيجة ولادة كينونة شعرية آخرى حقيقية ذات ابعاد ادبية تجلت فيها الجمال التأملي الذي ابتدع صياغته بلغة عربية – عراقية وبأنطباع بيئة بصرية كما أسلفنا .
المدخل الثالث : خصائص شعره
دأب الشاعر الراحل على أعطاء دروس ضمنية في كتاباته الشعرية , هذه الدروس تتمثل في الرمزية والتأويل وفقه اللغة . فقد كان شغوفآ في نمطية هذا النوع من الكتابة كمبدأ ثابت من دون ان يتجاوز على فهم مدلولات مواضيعة الشعرية بنمطية المعنى . فهو في المعنى يقلب القصيدة ويقرأها لعدة أيام من دون الأقرار بالموافقة سواء في المعنى او البنية , حتى أنه ينسى – أحيانآ – قصائدآ في جيبه فترة طويلة بسبب اصراره على أتمام العلاقة التفاوضية بين الدلالة والنص المكتوب .
وبسبب القلق واليأس والاسف الذي تنطوي عليه شخصية الشاعر من الداخل ,و بسبب المكرهات الخارجية المحيطة به والداخلية التي تكتنفه فقد جعلت منه شخصية مكافحة في مجال الادب كتعويض عن هذا الحيف وذلك من خلال كثافته في القراءة ودأبه على الكتابة حتى لحظة سقوطه على الارض وهو يحمل مصادره الادبية داخل مشغله . كل ذلك من أجل تأكيد وجوده كأنسان , وجد حريتة المطلقة في الكتابة , فجاءت قصائده في الرمزية كرد على ماتسببته له ظروف الحياة اليومية سواء الخارجية منها أو الداخلية , فراح يكتب بطريقة يشوبها التعتيم – مما يتطلب البحث في نصوصة لتأويلها لفهم مايجول في ذاته الانسانية – وكذلك الايحاء بعيدآ عن التسطح ليعبر عن مشاعره وأحاسيسه , ربما لتجنب بطش العوامل الخارجية أو بسبب القيود الاجتماعية وفي هذا – ربما – يشترك معه الكثير من الشعراء , وهي في الحقيقة طريقة في منح نصوصة آفاقآ ومضامين واسعة لتوجيه القارئ نحو العوالم التي يهدف اليها . هذه الطريقة صنعت تفردة أي في تعانق الدلالات ومايجول في ذاته كأنسان , بتقنية لغة جعلت ظاهر معانيها والمستور فيها بشكل نص تأويلي عالي الذروة نظرآ لفهم علاقته كأنسان بكينونته وهذا ما لم يكتب به أحد قبله أو ربما بعده في الشبه والمثال . وما ” نار القطرب ” إلا مثالآ وفتحآ جديدآ في نحت اوانيه الجديدة لتقديم شعره بعد مجموعته ” على الطرقات أرقب
الماره ” : البحرمثل الريح البحر لايستريح البحر في الساحة قرن من القصدير ثور جريح البحر جرح يصيح ( قصيدة ميتادور) .
لقد اهتم الشاعر الراحل بتقنية القصيدة الشعرية وهي اخطرمنطقة يواجهها الشعراء . فالتغيير في نظم القصيدة مسالة تنطوي على تطوير في ادوات الشاعر اللغوية واسلوب التفكير من اجل التحكم في اطار القصيدة وبنيتها . لذلك لجأ الراحل في دأبه على البحث في مجال المعرفة , فكان يقرأ كثيرآ حتى ساعات الفجر على الرغم من سوء حالته الصحية ونصائح الاقربين له , وأتذكر أنه قرأ كتاب ” الجيل الستيني ” لفوزي كريم دفعة واحدة من دون توقف ونحن في الطريق من بغداد الى البصرة , وأنه جلس مرة حتى الصباح يقرأ ويصحح كتابآ ضخمآ لأحد أصدقائه وأنهى القراءة بكتابة مقدمة له , ذلك لأنه وضع أمامه خياره الذي يقول : ” إما ان اعيش شاعرآ لي من أساي أنا في منزلي عندليب او اموت كبوم على خربات البيوت ” وهذا ماأختاره فعلآ , أن يكون عندليبآ , فلم يقع في هاوية الانانية وهوان التملق وذل المصلحة والاستهلاك اليومي . ولو تأملنا شعره بالمقارنة مع باقي الشعراء نجد غزارة في الفلسفة التي تعني بالاهتمام والبحث والتعليق على مفهوم الواقع والوجدان برؤية صافية ونزيهة استبعدت مايفسدها من تراكيب لغوية مفسدة او انثيالات أو أقحام , فهو يرفض ان تكون قصيدته بلا موضوع تقصده مشاعره .
كان الراحل وفيآ لأصدقائه – الأحياء والاموات – فلم يستبعد أسماء كانت في يوم من الايام من أبرز الامثال على صدق الأعمال والتوجهات . فكانوا بالنسبة اليه أطارآ متميزآ للآنية البصريه التي قدمت فيها موضوعاتهم الشعرية والفنية المحببة الى نفسة فأرتبطت بروحه ودخلت نظام تفكيره , فرثى الكثير منهم في مناسبات التأبين وقدم الكثير من الادباء من خلال كتابة مقدماته التي تبوأت أغلفة مؤلفاتهم , فعبّر فيها عن آرائه النقدية وتوجيهاته من خلال معرفته الوثيقة بهم وما أستنبط عن حياتهم الشخصية ومواقفهم العامة من قضية الادب . فقد كان يؤمن بأن الأدب هو حالة أجتماعية يتعين فيها التبادل والاتصال بين مبدعيه . وهو من ناحية أخرى لم يخف تأثرة بأدباء كبار من خارج بلاده أمثال الشاعر الاسباني فدريكو غارسيا لوركا و الارجنتيني خورخي لويس بورخس وبابلو نيرودا والامريكيان عزرا باوند وت س اليوت . ولم يخف أعجابه بأدباء بلاده الكبار منطلقآ من إيمانه بالوقوف الى جانب الابداع الادبي والفني , وأي مشهد للفنون والآداب يزخر بالحب والحياة .
وداعآ حسين عبد اللطيف ..
” أعرف ان هذا مؤسف ومؤس وفادح جدآ
أيتها العربة ذات الخيول المطهمة انطلقي .. لقد قضي الأمر .. ولاسبيل للأستدارة أو الرجوع .. أيها القبر كن زقورة , يارياح البصرة كوني رقيقة . “