23 ديسمبر، 2024 2:07 م

رحلة من العتمة الى النور

رحلة من العتمة الى النور

كانت ايام ربيعية يوم قررت الذهاب للحج , كان قرارا مستعجلا وحملات الحج اغلقت ابوابها للتسجيل الجديد ولم يبقَ الا ستة ايام فقط على السفر… كنت مترددة لاني دوما اتساءل عن الافعال التي يقوم بها الحاج هل هي فعلا عقلانية لانها كانت تبدو لي مجرد افعال عبثية لافائدة ترجى منها وبالاخص رمي الجمرات , كنت اعترض عليه في داخلي وبشدة واواجه صراعا نفسيا بسببه … كيف يكون لحصى تُرمى على اعمدة حجرية اثرا في شيطان ونحن نعلم ان اول الشياطين هو ما يكمن داخل النفس البشرية وعلينا ان نبتدأ به لننتقل الى الشياطين من حولنا في هذا العالم …
عندما وصلنا مسجد الشجرة , احرمنا من هناك وكان عليَّ ان أُلبّي – بقول لبيك اللهم لبيك – وما ان قلت لبيك اللهم لبيك حتى شعرت ان شيئا ما بداخلي يهزني هزا شديدا بدأت ارتجف والدموع تسبق الروح الى النفور من هذا الجسد الضعيف , تهرب الى اين لاادري , أَهيَ الروح خافت ربّها ؟ ام انه الشوق الى لقاء ومعرفة ماكنت اجهل ؟
بدأ المسير بنا الى المسجد الحرام ولاحت لي الكعبة , بناء صغير محاط بقماش اسود تطوف حوله الناس وتحوم فوقه العصافير بزقزقتها الجميلة في منتصف الليل .
 وكالاخرين بدات بالطواف لكني ولأني لاخبرة لي بأمور الحج الثانوية فقدت الحملة التي كنت معها وبقيت وحيدة لااعرف ما افعل او اقول , اطوف مع الغرباء او هكذا ظننت لبرهة واخذَتْ امواج الحجيج تدفعني فوجدت نفسي استمع لدعاء هذا الايراني او التركي وابتهل كما ابتهلوا وكانوا قد حفظوا ادعية بالعربية , ثم تاخذني امواج الحجيج الى مجموعة اخرى افريقة واوربية واشترك معهم في دعاءهم ثم اندونيسية وعربية وبيضاء وسوداء حتى نسيت مجموعتي ولم اعد احسّ الغربة والتيه وأتوق لان اختلط مع مجموعات جديدة لاشاركهم تلك الكلمات القلبية .
 شعرت اننا امة واحدة – امة الانسان – مجردة من الانانية والعنصرية والمادة , احساسنا واحد وحاجاتنا متشابهه وتوجهنا مشترك … هل هذا ما اراد الله منا ان نعرفه من الطواف ؟ ان نكتشف بانفسنا اننا لانختلف عن الاخر مهما كان لونه او اصله او مستواه الاجتماعي ويمكننا ان نتعايش معا لاننا نتشابه في انسانيتنا .
اكملتُ مراحلَ من الحج واتت اصعب مرحلة عليَّ وهي – رمي الجمرات – , كان عقلي لايقبلها نهائيا وطالما تساءلت وسألت اخرين عن المغزى او المنفعة من رمي حصى على عمود , فلم اجد جوابا مقنعا .
كان عليَّ ان اجمع الحصى من المزدلفة ويشترط ان يكون طاهرا فامسكت الحصى بيديَّ لاغسلها بالماء ورددت بيني وبين نفسي : هذا ما سأرمي به الشيطان , حصىً بحجم حبة الحمص , لايهم صغر حجم الحصى لكن المهم ان يكون نقيا من الدرن وكأَنَّ الله يقول لي : انكِ لن ترجمي الشيطان الا بعمل نقي طاهر , ولا عِبرة بصغر حجمه لكن العبرة ان تعيد الكرَّة مرة او اثنين او ثلاثة لتعوّد نفسك …
رضيت من نفسي بهذا التفسير العقلاني لكن المرحلة الاخيرة من الرمي كانت الاصعب والاشد على نفسي لاني لم اجد تفسيرا لها . فما معنى ان ترمي عمودا مبني من الطابوق والاسمنت لانه يمثل الشيطان او مكان الشيطان , في حين ان المفروض بنا ان نرمي الشيطان فينا , شيطان النفس .
حاولت ان اجد من يرمي الجمرات نيابة عني لكني وبلطف الهي اُجبِرتُ على الذهاب مع اصدقاء لي .
انهى اصدقائي رميهم وعادوا ليشجعوني على الدخول في الزحام الشديد ولم يعلموا ان الزحام الحقيقي كان في داخلي , في افكاري .
 استسلمتُ للامر ودخلتُ بين الجموع وكان علي ان اُكبّر قبل الرمي , وما ان رفعت يدي وقلت – بسم الله , الله اكبر – ورميت بالحجر حتى شعرت اني ادفع بهمّ كبير من داخل نفسي وارميه مع الحصى ثم كررتها ثانية – بسم الله ,الله اكبر – واحسست كأني أُخرج ذنوبي وآلامي واحزاني من صدري وارمي بها بعيدا بعيدا , فرجعت ثاثا ورابعا وباندفاع وشوق لأرمي ماتبقى من الحصى لانها مثلت لي وسيلة لتطهير نفسي مما علق بها من امراض الدنيا . وعندما اكملت الرمي شعرت وكأني اطير واحسست بسعادة لاتوصف وكأني وُلِدت من جديد .

شخصيا لا اعرف ماهو التفسير المنطقي لمراسم الحج الابراهيمي , لكني الان ومن تجربتي الشخصية اعرف تفسيرا خاصا بي قد يشترك معي فيه الكثيرون , واعلم اني خرجت من عالم مشوش غير واضح المعالم الى نور الحقيقة , الخاصة بي على الاقل .
اتمنى ان يعيش الاخرون هذه التجربة فهي فعلا تستحق التجريب .
**********
من تجربة شخصية عام 1999