7 أبريل، 2024 1:00 ص
Search
Close this search box.

رحلة مع القبور الخمسة

Facebook
Twitter
LinkedIn

قصة من الواقع العراقي…..
من قصص الحرب في مدينة الموصل
كل شيء كان يسير بحذر شديد كانت المدينة تشعر كأنها نائمة على فوهة بركان ولا تعرف متى سوف تهيج نيرانه كان سكان المدينة بأجمعهم يترقبون وبحذر متى سوف تتفجر هذه القنبلة الكبيرة والتي يخاف الجميع من عواقبها لانهم مقتنعون تماما ان انطلاقها سوف يعلن حرب داخل المدينة ولا يعرفون المدة والوقت الذي سوف تبقى حياتهم بها تحت هذا الصراع…
في هذه الاثناء كانت قسم من العوائل قد حسمت أمرها بالرحيل بعيدا عن هذه المدينة خوفا من العواقب التي تنتظرهم ولم يبقى فيها سوى الناس البسطاء والذين لا يملكون سوى لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم قرروا البقاء في منازلهم رغما عنهم لأسباب كثيرة اولها عدم امتلاكهم للمال والذي سوف يكون عونا لهم اذا ما قرروا الرحيل الى مدن اخرى والثاني كونهم لا يملكون اي مصدر رزق اخر يستطيعون ان يدفعون من خلاله ايجار منزل جديد او ما يتطلبه المنزل من مصاريف اخرى..
كانت قناعتهم فوق ارادتهم وكان قرارهم صعب جدا بالبقاء في المدينة لانهم يعرفون ان الخطر القادم سوف ينالهم مع عوائلهم اذا ما اندلعت الحرب في اي وقت كان.. وضمن مجريات هذه الاحداث كان هناك ثلاثة اخوة يعيشون تحت سقف واحد مع عوائلهم في تلك المنطقة الواقعة على الحدود الغربية من مدينة الموصل في منطقة سكنية تسمى موصل الجديدة في محلة حي العامل كانوا يعملون في القطاع الخاص وما يحصلونه من اجور في عملهم اليومي يقومون بشراء غذائهم لعوائلهم وقد استمرت حالتهم هذه لعدة سنوات سابقة لانهم لا يملكون اي راتب او مساعدة او معونة من الدولة….
وفي احد الايام بدأ الفصل الجديد للمسرحية الدولية الجديدة والمخطط لها لحياة تلك المدينة عندما تركت الدولة اهالي المدينة يواجهون مصيرهم والعيش مع اشخاص متشددين بأفكارهم ولا يقبلون بالرأي الاخر ومسرفين بالقتل ولا يهتمون بكل جوانب الحياة. وبقي اهالي هذه المدينة يعيشون ثلاثة سنوات من الخوف والجوع تحت الخطوط الحمراء لمن تولى أمرهم ولا يستطيعون فعل اي شيء كون الدولة قد تركتهم ووضعت حدود ادارية جديدة لهم وقيود على حركتهم تمنع هؤلاء الاهالي من التنقل بصورة طبيعية بين بقية المدن العراقية….
من كان يحاول الهروب فمصيره القتل ومن كان يخالف تعليمات واوامر هؤلاء المتشددين فمصيره القتل ايضا..
كل شيء لابد ان يسير حسب اعجاب المسؤول الاول لهؤلاء والذين اطلقوا عليه تسميات عده كالرئيس والأمير او الخليفة وغيرها من المصطلحات والالقاب التي لم تكن موجوده في قواميس الحكومات المتعاقبة الحالية….
كانت فاقة الفقر والجوع قد وصلت الى ذروتها وكان الناس مشدودة عيونهم وآمالهم على عودة الحكومة وقوانينها واعادة الاقتصاد والمشاريع الى مدينتهم وكذلك اعادة القطاع التعليمي والصحي حتى تعود مجريات الحياة الى طبيعتها القديمة….
كان اليأس مرافق لكل هذه الآمال والخوف يزداد يوما بعد يوم وظلام المدينة في الليل والخوف من المسلحين في النهار يضع هؤلاء السكان تحت قضبان سجن كبير…
وأي سجنٌّ هذا وانت تعيش محروم الارادة لا تستطيع ان تعبر عن ما في داخلك من مشاعر ويرافقك القلق في كل الاوقات.. ويبقى التفكير ملازما لكل سكان هذه المدينة.. مصير مجهول ومبهم ونفق مظلم لا يوجد فيه اي بصيص من الامل..
خدمات فقدت بالكامل وطرق قد اصبحت بلا تعبيد وشبح الموت يتنقل بين هنا وهناك… والجميع مازالوا متمسكين بالحياة وهم يتابعون الاخبار وبطريقة سرية خوفا من العقوبة التي سوف تطالهم في حالة وصلت تلك الاخبار الى آذان ومسامع الجماعات المسلحة…
قطعت كل وسائل الاتصالات المرئية والمسموعة واصبح الناس يعيشون في عزلة تامة ولا يستطيعون التحرك سوى داخل المدينة او الى مناطق الريف التابعة لها ولكن الجميع يعيشون في نفس المأزق ونفس الحالة ولا يوجد اي فرق بين تلك المنطقة او غيرها….
هموم وشجون واحزان وخوف من مصير مجهول يرافقه حذر شديد.. ومرت السنتين بكل مأساتها ومرارتها من عمليات حربية بين الحكومة المركزية والجماعات المسلحة وبين قصف الطائرات لهؤلاء المسلحين المتشددين والذين اتخذوا مواقعهم داخل الاحياء السكنية…وكان القصف يطول العوائل المدنية الآمنة في بيوتها ويرافقه خوف الاطفال والنساء وسماع صراخهم….
اصبحت الحياة بلا طعم ولامعنى في هذه المدينة والكل يترقب الموت بأي لحظة من الزمن وما اصعبها الابوة والامومة في هذه اللحظات…يتمنى الاب مثلما تتمنى الام ان يكون أجلهم قبل ان يذوقوا لوعة الفراق لأحد ابنائهم ورغم كل الحرص لدى بعض العوائل في هذه المدينة الا ان قسما كبير منهم فقد احد افراد عائلته..
لقد ابتلى الله هذه المدينة ومن مثلها بنفس الظروف بحياة الجحيم القاسية طعمها مرٌّ فاق كل شيء في هذا الكون بمرارته…..
توقفت الحياة بأكملها ولم يبقى من الزمن سوى حسابات وقتية لا فائدة منها.. حتى السيارات لم يبقى لها الوقود الذي يديم حركتها سوى ما يصنع بطريقة بدائية ابتكرته الظروف الصعبة في المدينة فيقوم اشخاص معينين بشراء النفط الخام المسال في الاودية القريبة من آبار النفط من المسلحين ويقومون بتصفيته بطريقة نظام الخرق وتسمى هذه العملية تصفية الحراقات…..
حياة يشوبها الظلام في كل شيء فانتشر الجهل والآفات واصبح للمشعوذين والدجالين دور بارز بالطب تحت ما يسمى بطب الأعشاب واصبحت دكاكينهم في كل المناطق السكنية أشبه بعيادات الاطباء سابقاً….
كل شيء تحت طائلة قانون هؤلاء المسلحين الذي وضعوا فيه فقرات كثيرة من ضمنها طريقة ارتداء الملابس العامة للناس وطريقة تصرفاتهم ومراقبة كل تحركاتهم لانهم يعرفون جيدا ان انعدام الثقة بينهم وبين اهل المدينة قد تدنى تحت خطوط الرقم صفر..
كانت عيون اهالي المدينة تتابع وتراقب تحركات القوات الأمنية للحكومة المركزية ومتى موعدها ببدأ معركة القضاء على هؤلاء المسلحين وعودة مدينتهم الى حالتها الطبيعية اسوة بباقي المدن العراقية…
وكان قسم من شباب المدينة قد نفذ صبره فحاول بكل طريقة الهروب باتجاه المناطق التي تقع تحت سيطرة الحكومة وهذا الهروب يدفع ثمنه حياته في اغلب الاحيان لأنه سوف يتعرض للقتل مباشرة بمجرد شعور الجماعات المسلحة بذلك…
شحة قوية في الغذاء وعدم توفر اغلب المواد الغذائية الاساسية بسبب الحدود المغلقة واصبح الحصول على الماء الصالح للشرب بصعوبة..
تحركت عجلة الزمن رغم تباطىء عقارب الساعة لكن الاخبار تشير الى بداية العمليات العسكرية ولكن بصورة بطيئة جدا.. لان القوات المشاركة في هذه المعركة من قبل الحكومة والتحالف الدولي معها لا تريد ان تضحي بخسارة بشرية كبيرة وتريد حسم المعركة لجانبها ورسم الخطط العسكرية الدقيقة لهذه المعركة كونها سوف تتحول الى حرب شوارع لأنها غايتها فك الحصار عن العوائل داخل المدن والاحياء السكنية وان الطرف الاخر اصبح في وضع صعب جدا ولايعنيهم عدد الضحايا والخسائر بين صفوف المدنيين…
تقدمت القوات العسكرية لتحرير المدن الواقعة تحت سيطرة المسلحين وكان بدايتها المدن البعيدة عن مدينة الموصل كونها آخر مدينة في الرقعة الجغرافية تقع تحت سيطرتهم…معارك طاحنة بدأها تقدم للقوات البرية على الارض وقصف جوي كثيف يرافقه اطلاق قذائف مدفعية متطورة…
لم تكن ساحة المعركة واعادة اي مدينة من سيطرة المسلحين بالأمر السهل كون ظرف المعركة مختلف تماما عن كل المعارك التي تخوضها القوات العسكرية وكذلك تواجد الملايين من سكان هذه المدن داخل منازلهم واي خطأ عسكري سوف تكون له عواقب وخيمة…..
وفي ظل هذه الاحداث الصعبة والمخيفة كانت هناك وكما ذكرنا سابقا عائلة كبيرة من اهالي مدينة الموصل مكونة من ثلاثة أسر تعيش اسوة بغيرها الرعب والمأساة وربما انقطاع الامل في بعض الأحيان…
ثلاثة اخوان هم ابو نجلاء وابو ايمن وابو زمن مع نسائهم واطفالهم يعيشون تحت سقف منزل اورثه لهم والدهم. اثنان منهم يعملون سواق شاحنات نقل كبيرة عند احد مكاتب النقل والثالث يعمل في سوق شعبي لبيع الخضراوات ولا يملكون من هذه الدنيا سوى مصروفهم اليومي الذي يحصلون عليه من اجورهم اليومية… حياتهم صعبة جدا ويعيشون تحت خط الفقر ولكنهم يمتلكون القناعة والامل بمستقبل افضل..
ومع دخول المعارك وتوقف عجلة الحياة نهائيا في مدينة الموصل اصبحت هناك شحة في المواد الغذائية في منزلهم واصبح همهم الوحيد توفير لقمة العيش لعوائلهم…. وبين هذا الظرف المرعب والجوع والخوف من مستقبل مبهم وما ان اقتربت القوات العسكرية من المنطقة التي يسكنونها حتى قام الجماعات المسلحة المسيطرة على المدينة بتبليغهم بأخلاء منازلهم والرحيل الى منطقة سكنية اخرى ومن لا ينفذ الامر فانه سوف يقتل في منزله….
عوائل كبيرة لا تعرف اين سوف تكون وجهتها القادمة والى اين يذهبون…ما اصعب الحياة عندما تصبح عديمة الطعم من كل الصفات الانسانية…
قام الاخوة الثلاثة مستسلمين لأقدارهم بترك منزلهم والرحيل منه والتوجه الى المناطق السكنية الاخرى وقد واجهوا التنقل والترحال والسكن بعدة مساكن نتيجة لظروف كل العوائل الصعبة… وما اصعبها من لحظات عندما تجد اكثر من عشرة عوائل يسكنون تحت سقف واحد يرافقهم الجوع والخوف في كل لحظة…
استقر بهم المطاف في اخر لحظاته في منطقة تسمى حي الرسالة وقريبة جدا من الشارع الرئيسي لسوق موصل الجديدة.. وعينهم تراقب وتتأمل وصول القوات العسكرية لإنقاذهم من محنتهم هذه…
كانت وسائل الاتصال شبه مستحيلة وكان استخدام جهاز الهاتف النقال يتم بصورة سرية جدا ولدقيقة واحدة فقط.. وكان الاخوة الثلاثة يقومون بالاتصال بين الحين والاخر لمعرفة ما يدور حولهم واين اصبح تقدم القوات الأمنية.. وكل المتصلين يبثون فيهم روح الامل بان خلاصهم من تحت سيطرة المسلحين باتت قريبة جدا.
اصبح القصف الجوي وصوت الدبابات والمصفحات العسكرية قريبة جدا منهم… ولكن القصف الجوي اصبح كثيف جدا وفي كل لحظة يسمعون صوت قذيفة قادمة تسقط قربهم ويسمعون انفجارها يرافقه صراخ وعويل…
دقائق تحبس الانفاس وانت تنظر نظراتك الاخيرة الى افراد عائلتك ولسانك يشد عزيمته ولكنك انت نفسك مكسور العزيمة لعدم وجود اي بصيص للأمل يبعث فيك الطمأنينة..
وماهي الا لحظات وهم يسمعون صوت صاروخ هائج قد ظل هدفه واذا به يسقط فوق المنزل الذي يتواجدون فيه. زهقت الارواح البريئة الى خالقها تشكو ظلم الانسان لأخيه وتشكو جور الحكومات لشعوبها….
وعلى اثر انفجار هذا الصاروخ فارق الحياة كل من الاخوان ابو نجلاء وزوجته وابو زمن وزوجته وابو ايمن تاركين خلفهم اطفالهم الذين كانوا يسكنون في غرفة اخرى قريبة من المكان المتواجدين فيها اهلهم فكتب الله لهم العيش بعد ان فارق ابائهم وامهاتهم هذه الحياة الدنيا وما هي الا ساعات حتى دخلت القوات الأمنية لتلك المنطقة واعيدت المنازل رغم الدمار الذي حدث فيها الى اصحابها…. ولكن من يعيد ارواح هؤلاء الأبرياء المظلومين… من يعيد الحياة لمن كان يتمنى ان يعيشها قبل ساعة من الان…
اسئلة كثيرة ومبهمة وحروب يصنعها الانسان بنفسه وادوات قتل نبتكرها ليقتل بعضنا البعض فيها…
وبعد يومان من الحادث الاليم استطاع الناس اخراج جثثهم ليستلمهم اخوانهم واقاربهم ويقومون بإجراءات دفنهم في المقبرة الخاصة بعائلتهم…
خمسة قبور لخمسة شهداء من عائلة واحدة يدفنون في يوم واحد…
يالها من مرارة في الحياة حينما تعيش فيها تحت خط الفقر وتحت الخوف والرعب ثم تفارقها تاركا خلفك عائلتك لا تعرف عن مصيرهم شيئا……
دماء تسيل في الشوارع.. وجثث متروكة هنا وهناك ودوي للانفجارات بكل مكان من هذه المدينة. لقد عاش اهلها يستنجدون السماء لتنقذهم من ظلم الارض وساكنيها…..
انتهت المعارك وبقى السؤال كيف سوف يواجه اطفال الشهداء مصيرهم في هذه الحياة وقد اصبحوا بلا اب او ام واصبحت المدينة تحتوي على الالاف من هؤلاء الاشخاص الذين فقدوا من يعيلهم في هذه الحياة…
بالنسبة لاطفال الشهداء الخمسة المذكورين في احداث هذه القصة فقد جاءت رحمة الله من فوق كل شيء.. فان الله الذي أخذ ارواح اهلهم كفيل بهم.. فسخر لهم من يقوم بعنايتهم فتكفل بهم عمهم ابوعلي الاخ الاكبر للشهداء وقام باضافة كل تلك العوائل وضمهم الى عائلته الخاصة وتقديم الرعاية الصحيحة لهم وبافضل صورة ومازال يهتم بهم اهتمام خاص هو وزوجته تلك المرأة الراشدة المحسنة والتي تعاملهم اسوة بأفراد عائلتهم..ويعتبر اليوم الاب والعم المثالي للجميع… وكان نعم المربي والحريص عليهم دائما وانه نموذج مميز للانسانية جمعاء…..
واليوم وبعد مرور عدة سنوات على وقوع الحادثة كبر ابناء الشهداء وحقق قسم منهم طموح اهلهم بمواصلة الدراسة للحصول على اعلى الشهادات العلمية..ومازال الباقين يمارسون حياتهم الطبيعية وبرعاية من تكفل بهم…
هذه قصة حقيقية من واقع الشهادة والشهداء في مدينة الموصل نكتبها لتبقى شاهد للتاريخ نحاكي فيها ضمائر العالم المتحضر الذي صنعوا القذائف والصواريخ لقتل الأبرياء وزرع الرعب في قلوب الاطفال والنساء…
..هذه قصة حدثت في مدينة العلم والادب والثقافة… مدينة الانبياء والاولياء.. التي اختارت الارادة الدولية لها العيش بعزلة تامة عن العالم وتدمير كل واقعها الحضاري وايقاف عجلة الحياة فيها بصورة تامة…مدينة الموصل.. مدينة الشهداء والقبور الخمسة….

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب