23 ديسمبر، 2024 12:37 ص

رحلة الذهب من شارع النهر الى ديترويت

رحلة الذهب من شارع النهر الى ديترويت

 لا أظن ان هناك قوما ارتبط اسمهم بمهنة محددة مثلما  ارتبط اسم الصابئة المندائين بصياغة الذهب في العراق . ولمن يتتبع خيوط هذا الأرتباط سيكتشف انه يمتد الى عمق الزمان السحيق ، الى الأجداد السومريين والأكدين والبابلين ، ولما لا ! فموطن الأجداد كان جنوب العراق ، وهو ذاته موطن الصابئة المندائين ، وحتى ليخال لك وأنت تتجول  في اروقة المتحف العراقي وتتفحص  كابينات عرض اللقى الذهبية الزجاجية ، لتتأكد بنفسك من انك لست  فقط تنظر الى تأريخ عمره آلاف السنين ، بل يبدو انها اوتيت للتو من احدى محلات الصاغة المندائيون في شارع النهر !
كانوا منتشرين  في اغلب مراكز المدن ( ومازال البعض منهم ايضا) ، ولعل بغداد العاصمة ، بتعداد نفوسها الكبير ، ومركزها التجاري وطابعها المدني كانت قبلة للهواة والمحترفين من المداعبين لهذا المعدن الثمين ، وبهذا يكون شارع النهر ، او شارع العرائس ، او شارع الجميلات أهم موقع يحلم به كل من اراد الولوج في عالم الأناقة والذهب والفن . رغم ان  الحاجة التي فرضها التوسع الميداني وأزدياد السكان وتنامي الدخول بأفتتاح مراكز تجارية في اغلب مناطق بغداد ، والتي احتوت على محال للصياغة مثل الكاظمية والأعظمية والعامل واليرموك والمنصور والدورة وبغداد الجديدة والمشتل  والضباط والباب الشرقي والسعدون والكرادة والثورة والشعلة والشعب  والعديد من الأحياء البغدادية القديمة والحديثة ، لكن ، بقى شارع النهر وتفرعاته ( خان الذهب – خان الشاهبندر ، ســوق دلّة ، سوق ازهار)  قبلة كل من يبحث عن الأنيق والجديد . محلات عامرة وبواجهات جميلة وأخاذة ، حلي ذهبية ، قلادات ، محابس ، أقراط ، خواتم ، زناجيل ، ادعية ، موروثات شعبية وأخرى طقسية ،  وصور لرموز دينية  وتحف فنية غاية في الروعة مصنوعة من الذهب والفضة ومطعمة بالمينا . اسماء كثيرة مازالت ترن في الأذن مثل  :  خليل مالله كان مختصا بالذهب ، ياسر صكر الحيدر وأولاده (ذهب) ، غريب وأولاده ( فضة –ذهب) ، عباس عمارة – والد الشاعرة لميعة عباس ،  كل اولاد وأحفاد زهرون ملا خضر  ( فضة) ، والسيد زهرون بالمناسبة ، كانت الباحثة الأنكليزية في الشؤون المندائية ” الليدي درور” قد افردت له عدة مقالات  تضمنت الأساطير والحكايات الشعبية المندائية التي نقلها لها ، علما انه كان من المع لاعبي الشطرنج في العراق ويتقن عدة لغات ، وأخرون غيرهم .
    ولمن كان يلج احدى هذه المحلات ، كان لابد ان يلفت نظره  وجود شخص او اشخاص ، بلحية كثة وبزي شعبي ( الدشداشة البيضاء)  وبنظارات خاصة للعمل  . اما من يعرف قصة هؤلاء الناس ، فسيعلم ، انهم جزء مهم من الطائفة ، توحي لحاهم وملابسهم الى درجة دينية او اجتماعية في الطائفة ، يتوجها اللون الأبيض ، الذي يلازمهم  ليس في طقوسهم فحسب ، وبل وحتى في البستهم العادية ، رمزا للطهارة والنقاء والأمانة . ولهذا ، كان الكثير من الزبائن يتعامل معهم ، وهم واثقون بالرغم من كل ما تحمله هذه المهنة من متاعب وأحتمالات !
     ولآنهم جزء اصيل من الشعب العراقي ، فقد اصابهم ما اصابه ، وهكذا كان مصير الكثيرين منهم ان يختاروا الغربة ملاذا للنجاة بأرواحهم وعوائلهم ، وقد حط الكثيرين منهم في  الولايات المتحدة ، ناهيك عن اوربا وكندا  وأستراليا ، وكان لولاية مشيكان حصة طيبة من هذا الطيف المسالم . رغـم تنوع  التخصصات في الجيل او الأجيال الجديدة ، وتخرج الكثيرين منهم من فروع الجامعات المتعددة وكثرة الأختصاصات العلمية والحرفية ، الا ان مهنة الذهب مازالت ســـاحرة ! وهي حقا كذلك اذ يقول السيد نذير المندوي صاحب “مجوهرات دجلة” : انها المهنة التي تتعامل مع اغلى المعادن – الذهب – ومع ارق انواع البشر – النساء . اما السيد عصام النشمي  صاحب مجوهرات “ادي” فيقول : ان الذهب حلو ، لقد توارثنا المهنة ابا عن جــد ، ولا احب اية مهنة اخرى  ، فيما يؤكـد شـــقيقه السيد مؤيد النشــمي صاحب مجوهرات ” رام” : بأن الذهب  زينة وخزينة ، والذهب ملك الأناقة والجمال .وتنتشر محلات اخرى مثل مجوهرات ” حواء” للسيد طلعت مندوي وشـريكه ، مجوهرات ” يردنا ”  للسيد انيس عبد الصاحب ، مجوهرات ” بابل”  للسيد عليم السبتي وورش  كثيرة تتنوع بأحجامها  يعمل بها ابناء الطائفة اما كشغيلة او كأصحاب عمل .

ومثلما اشتهروا بمحلاتهم في بغداد ، فهم لا يقلوا شهرة في هذه المدينة ( ومدن امريكية كثيرة) ،  فبرغم ان  الحاجة تفرض امتلاك  رأسمال كبير ، وما تحمله هذه المهنة من مفارقات تقلبات سوق الذهب العالمي  اضافة الى  المنافسة الشديدة من سوق الذهب الأمريكي الهائل ، والذي يحوي موديلات وأذواق وتصاميم من كل انحاء العالم ، الا ان  ابناء هذه الطائفة كانوا جديرين  في تملك ثقة الزبائن العراقيين والعرب وحتى من الأقوام الأخرى  ! وكم كانت تلك المرأة العراقية محقة في كلامها  حينما اشترت ذهبا من احد الصاغة الذي لم يكن مندائيا ، ويبدو انها لم تكن سعيدة بهذا الأختيار  فقالت له : ” صحيح الذهب تيزاب ، بس الصايغ مو صـــبّي” !؟