لا أظن ان هناك قوما ارتبط اسمهم بمهنة محددة مثلما ارتبط اسم الصابئة المندائين بصياغة الذهب في العراق . ولمن يتتبع خيوط هذا الأرتباط سيكتشف انه يمتد الى عمق الزمان السحيق ، الى الأجداد السومريين والأكدين والبابلين ، ولما لا ! فموطن الأجداد كان جنوب العراق ، وهو ذاته موطن الصابئة المندائين ، وحتى ليخال لك وأنت تتجول في اروقة المتحف العراقي وتتفحص كابينات عرض اللقى الذهبية الزجاجية ، لتتأكد بنفسك من انك لست فقط تنظر الى تأريخ عمره آلاف السنين ، بل يبدو انها اوتيت للتو من احدى محلات الصاغة المندائيون في شارع النهر !
كانوا منتشرين في اغلب مراكز المدن ( ومازال البعض منهم ايضا) ، ولعل بغداد العاصمة ، بتعداد نفوسها الكبير ، ومركزها التجاري وطابعها المدني كانت قبلة للهواة والمحترفين من المداعبين لهذا المعدن الثمين ، وبهذا يكون شارع النهر ، او شارع العرائس ، او شارع الجميلات أهم موقع يحلم به كل من اراد الولوج في عالم الأناقة والذهب والفن . رغم ان الحاجة التي فرضها التوسع الميداني وأزدياد السكان وتنامي الدخول بأفتتاح مراكز تجارية في اغلب مناطق بغداد ، والتي احتوت على محال للصياغة مثل الكاظمية والأعظمية والعامل واليرموك والمنصور والدورة وبغداد الجديدة والمشتل والضباط والباب الشرقي والسعدون والكرادة والثورة والشعلة والشعب والعديد من الأحياء البغدادية القديمة والحديثة ، لكن ، بقى شارع النهر وتفرعاته ( خان الذهب – خان الشاهبندر ، ســوق دلّة ، سوق ازهار) قبلة كل من يبحث عن الأنيق والجديد . محلات عامرة وبواجهات جميلة وأخاذة ، حلي ذهبية ، قلادات ، محابس ، أقراط ، خواتم ، زناجيل ، ادعية ، موروثات شعبية وأخرى طقسية ، وصور لرموز دينية وتحف فنية غاية في الروعة مصنوعة من الذهب والفضة ومطعمة بالمينا . اسماء كثيرة مازالت ترن في الأذن مثل : خليل مالله كان مختصا بالذهب ، ياسر صكر الحيدر وأولاده (ذهب) ، غريب وأولاده ( فضة –ذهب) ، عباس عمارة – والد الشاعرة لميعة عباس ، كل اولاد وأحفاد زهرون ملا خضر ( فضة) ، والسيد زهرون بالمناسبة ، كانت الباحثة الأنكليزية في الشؤون المندائية ” الليدي درور” قد افردت له عدة مقالات تضمنت الأساطير والحكايات الشعبية المندائية التي نقلها لها ، علما انه كان من المع لاعبي الشطرنج في العراق ويتقن عدة لغات ، وأخرون غيرهم .
ولمن كان يلج احدى هذه المحلات ، كان لابد ان يلفت نظره وجود شخص او اشخاص ، بلحية كثة وبزي شعبي ( الدشداشة البيضاء) وبنظارات خاصة للعمل . اما من يعرف قصة هؤلاء الناس ، فسيعلم ، انهم جزء مهم من الطائفة ، توحي لحاهم وملابسهم الى درجة دينية او اجتماعية في الطائفة ، يتوجها اللون الأبيض ، الذي يلازمهم ليس في طقوسهم فحسب ، وبل وحتى في البستهم العادية ، رمزا للطهارة والنقاء والأمانة . ولهذا ، كان الكثير من الزبائن يتعامل معهم ، وهم واثقون بالرغم من كل ما تحمله هذه المهنة من متاعب وأحتمالات !
ولآنهم جزء اصيل من الشعب العراقي ، فقد اصابهم ما اصابه ، وهكذا كان مصير الكثيرين منهم ان يختاروا الغربة ملاذا للنجاة بأرواحهم وعوائلهم ، وقد حط الكثيرين منهم في الولايات المتحدة ، ناهيك عن اوربا وكندا وأستراليا ، وكان لولاية مشيكان حصة طيبة من هذا الطيف المسالم . رغـم تنوع التخصصات في الجيل او الأجيال الجديدة ، وتخرج الكثيرين منهم من فروع الجامعات المتعددة وكثرة الأختصاصات العلمية والحرفية ، الا ان مهنة الذهب مازالت ســـاحرة ! وهي حقا كذلك اذ يقول السيد نذير المندوي صاحب “مجوهرات دجلة” : انها المهنة التي تتعامل مع اغلى المعادن – الذهب – ومع ارق انواع البشر – النساء . اما السيد عصام النشمي صاحب مجوهرات “ادي” فيقول : ان الذهب حلو ، لقد توارثنا المهنة ابا عن جــد ، ولا احب اية مهنة اخرى ، فيما يؤكـد شـــقيقه السيد مؤيد النشــمي صاحب مجوهرات ” رام” : بأن الذهب زينة وخزينة ، والذهب ملك الأناقة والجمال .وتنتشر محلات اخرى مثل مجوهرات ” حواء” للسيد طلعت مندوي وشـريكه ، مجوهرات ” يردنا ” للسيد انيس عبد الصاحب ، مجوهرات ” بابل” للسيد عليم السبتي وورش كثيرة تتنوع بأحجامها يعمل بها ابناء الطائفة اما كشغيلة او كأصحاب عمل .
ومثلما اشتهروا بمحلاتهم في بغداد ، فهم لا يقلوا شهرة في هذه المدينة ( ومدن امريكية كثيرة) ، فبرغم ان الحاجة تفرض امتلاك رأسمال كبير ، وما تحمله هذه المهنة من مفارقات تقلبات سوق الذهب العالمي اضافة الى المنافسة الشديدة من سوق الذهب الأمريكي الهائل ، والذي يحوي موديلات وأذواق وتصاميم من كل انحاء العالم ، الا ان ابناء هذه الطائفة كانوا جديرين في تملك ثقة الزبائن العراقيين والعرب وحتى من الأقوام الأخرى ! وكم كانت تلك المرأة العراقية محقة في كلامها حينما اشترت ذهبا من احد الصاغة الذي لم يكن مندائيا ، ويبدو انها لم تكن سعيدة بهذا الأختيار فقالت له : ” صحيح الذهب تيزاب ، بس الصايغ مو صـــبّي” !؟