18 ديسمبر، 2024 11:01 م

رحلة الاوهام ل (سعدون ضمد)

رحلة الاوهام ل (سعدون ضمد)

قادني شغفي بالكتاب الى العثور على كتاب هتك الاسرار للكاتب سعدون محسن ضمد الذي يصف فيه تجربته في التحول الفكري من التدين الى غيره حيث عاش ضمد فترة من حياته كما يقول في تجربة صوفية ادت به فيما بعد الى ان يترك هذا المسلك و ينقلب على فكرة التدين من الاساس.
و ما يؤخذ على تجربة ضمد انها نظرت الى الدين من منظار ضيق و هو منظار الصوفية فالكاتب حاكم الاسلام خاصة و الدين عموما من ذلك المنظار و الادهى انه حكم من خلال تجربة شخصية و مغامرة خاضها بنفسه قد تكون مقدماتها غير صحيحة و بالتالي فأن نتائجها غير صحيحة.
ان النظر الى الدين من خلال المسلك الصوفي و اعتبار ذلك النظر هو النظر الصحيح و الوحيد الذي يمكن من خلاله معايرة الدين و وضعه في موضع النقد و تصويب السهام نحوه هو خروج عن الموضوعية في نقد المواضيع و الحكم عليها اذ لا يمكن لاي منصف ان يحكم على موضوع ما دون النظر اليه من مختلف الزوايا حتى يكون الحكم مستوفيا و موضوعيا.
و يؤخذ على الكاتب ايضا قوله في المقدمة (اخاف كثيرا كلما شككت باحتمال ان لا تكون رحلتي الدينية هي وحدها الوهمية بل ايضا رحلتي اللادينية هي الاخرى كذلك الامر الذي جعلني اميل الان الى الاعتقاد بأن الايمان بوجود حقيقة ثابتة هو الوهم الكبير الذي قاد الانسان لجميع اوهامه الاخرى) و اعترافات الكاتب هنا مثيرة للاهتمام فهي تمثل خلاصة ما يمر به من تأزم نفسي و فكري في ادراك الحقيقة فهو هنا بمنزلة الشك في كل ما حوله و لذلك قرر حقيقة ثابتة هي ان لا وجود لحقيقة ثابتة و ان ذلك الوهم الكبير الذي قاد الانسان الى اوهامه الاخرى و هو لا يدري انه ثبت هنا حقيقة و وصفها بأنها ثابتة بالرغم من نسبية كل شيء حوله و ملخص هذه الحقيقة (لا وجود لحقيقة ثابتة) فهنا يحق لنا ان نسأل هل ان المقولة التي تقول (لا وجود لحقيقة ثابتة) هي حقيقة ام لا فأن كانت حقيقة فقد نفيت مقولتك و ان لم تكن كذلك فعليك بمراجعة كل ما قلته و اعتقدت به.
هذا الشك الذي مني به فلاسفة قبل كاتبنا مثل ديكارت الذي حاول ان يجيب عن ذلك بمقولته الشهيرة (انا افكر اذن انا موجود) هو وهم كبير يتعالى عن الوجدان و عن الحقائق التي نلمسها و نشعر بها و هو ناتج عن الفصل بين المعطيات التي تقدمها الحواس و بين ما يدور في العقل البشري على ضوء تلك المعطيات , تلك اللحظة ما بين ما تقدمه الحواس و بين انطباع الصورة في الذهن وفقا لما قدمته تلك الحاسة هنا تكمن المشكلة و قد اجاب السيد محمد باقر الصدر رحمه الله في كتابه الموسوم فلسفتنا اجابات وافية و موضوعية عن ذلك و لك ان تراجع.
و يمضي الكاتب في التأكيد على ان حالة النبوة هي مرحلة يمكن ان يصل اليها اي متصوف و هي مرحلة الارتداد في الوعي الذي ينتج عن وصول الصوفي الى مرحلة الفناء في الذات و الاتحاد معها فيما بعد و التي تشكل معضلة للصوفي تعيد اليه وعيه البشري اذ ان الاتحاد مع الذات الالهية يعني قدرة المتحد على ان يكون كالاله خالقا و قادرا على كل شيء و هو الامر الذي يصطدم به الصوفي فينقلب وعيه و على هذا يبني نتيجة جديدة و هي ان كل نبي متصوف بالاصل وصل الى هذه المرحلة و صار فيما بعد نبيا لانه ببساطة لم يستطع الاستمرار بالاستغراق في المرحلة التي تألهن فيها و اتحد مع الاله.
و تأسيس الكاتب هنا غير صحيح البتة اذ انه بناء على تجربة شخصية محضة ولدت لديه قناعات خاطئة عن النبوة تلك التجربة التي يمر بها المريد او الصوفي او السالك بأحوال تجعل البعض يرى الحقائق التي يريدها هو و يعمي على الحقائق التي لا يريدها لانها تقف في طريق سلوكه و تصوفه لذا فأن الحقائق التي تتكشف للصوفي ليست سوى نتاج عقلي او كما يسميه وهما فكل تجربته كانت مبنية على الوهم ثم ما لبث ان كفر بها و اعلن ان النبوة هي فرع عن التصوف و بذلك فهي وهم ايضا.
و يؤسس الكاتب فيما بعد لحقيقة خطيرة يبين فيها ان مسألة تلقي الوحي و حديث الوحي مع النبي هو وهم اذ ان الموضوع ذاتي و لا واقع له في الخارج بمعنى ان النبي يتصور ذلك و يتوهمه و من ثم يوصله للناس على انه وحي و هنا يتساءل و كيف لنا ان نتأكد من ذلك اذ لا توجد معطيات خارجية يكون الحكم عليها و يقرر على ضوء ذلك حقيقة خطيرة اخرى ان الادراك او الوعي نوعين الاول يتعامل مع الواقع من خلال الحواس و هو ما نسميه الادراك و الثاني لا يتعامل مع الواقع الخارجي و لا يستخدم الحواس لكنه يدعي وجود هذا الواقع الخارجي و هذا النوع يسميه التوهم لانه ببساطة ليس ادراكا مألوفا.
و الحقيقة ان هذا الفهم يثير التعجب اذ كيف لي ان اتأكد من الاف الظواهر الفيزيائية و العلمية الاخرى التي لا يمكن للحواس ان تدركها كالجاذبية و الموجات الراديوية و غيرها و حال الكاتب هنا كشخص يعيش قبل مئة عام من الان و جاءه شخص ليخبره بأن بأمكانه نقل كتاب او مئات الكتب و هو جالس عبر جهاز يدعى الكمبيوتر , ان عدم ادراك شيء لا يعني عدم وجوده كما هو واضح و ان الحواس لا يمكنها ان تغطي كل المدركات التي تكونت عندنا و ان التوهم لا يعني ان كل ما تتوهمه غير صحيح اذ ان التوهم الذي يتكون نتيجة لوجود معطيات و اثار خاطئة يكون بطبيعة الحال خاطئا اما اذا اتى من معطيات و اثار صحيحة فأن نسبة صحته تكون كبيرة.
و اخيرا اقول كان ينبغي للكاتب ان يحاكم تجربته بدلا من ان يحاكم الدين و يحمله فشل التجربة و المغامرة التي خاضها و التي اوصلته الى حقائق ربما تكون خاطئة بنسبة كبيرة و ربما تكون صحيحة بالنسبة له على الاقل.

[email protected]