الظلام سفينة تستعجلُ ركوبها الأجساد المنهكة القابعة وراء الصمت تستحثّ خطاها عواصف سرّية دوّاماتها تستند على تخوم الذكريات الخاطفة ما أقسى فقدانها منذ البداية , مضحكة أخرى تمارس خرابها المكشوف بقسوة لا تخلو من الإستهزاء والمكر والدهاء , هي حكاية مستمرة الحبكة منمنمة ككرنفال نعيشها في كتاب مجهول ..!!! .
حينما تناثرت من حولي وأبتعدت ذرات الأوكسجين , شعرت بأنّ سقف الغرفة التي كنت محجوراً فيها مع حاسوبي وكتبي وأوراقي قد بدأ يقتربُ منّي بخبث وأصرار حتى جثم فوق صدري , لم أستطع أن أصرخ وأستغيث , لأنهم جميعاً كانوا ( يتعاركون ) مع ضيف خبيث حطّ رحاله في أجسادهم . لمْ أدرِ مالذي حدث بعد أن أغمضت عينيّ وشعرت بأنّني للتو قد خرجت من سجن كان يضيق عليّ بالتدريج , وأحسست بحرّيتي تعود لي مرّة أخرى , فها هي تسير معي وأنا فوق عربة نقل المرضى داخل ممرّات المستشفى . فجأة , أنفتحَ باب هاااااائل ووجدتني أدخل من خلاله ومعي الكثير من أمثالي الذين عرفوا الحقيقة وأستسلموا لأقدارهم المكتوبة , وأُغلق وراءنا الباب بأحكام وأنتهى كلّ شيء , في الخارج بقي الكثير ينتظرون أن يفتح الباب مرّة أخرى ليدخلوا , وبقي أهلي وأصدقائي ينتظرون عبثاً عودتي , كنت أسمع اصواتهم وهم ينادون عليّ : كريم .. عدْ لنا نحن ننتظرك .. مازال لدينا الكثير . وعندما أستياسوا من عودتي , عادوا جميعاً يحملون أحزانهم وذكرياتهم الجميلة معي , أمرأة واحدة قرّرت أن تبقى وتنتظرني وتنتظر عودتي , كنت أسمعها تقول : كريم أرجوك لا تتركني وحيدة في هذا الفضاء الموبوء , بينما صديقي الشاعر عدنان الساعدي بقي هو الآخر ينتظر , وكان ينادي عليّ : أخوي كريم سابقى هنا لنْ أبرح مكاني , لابدّ أن تعود , بينما صديقي وجد الروح كان ينفث الأمل من خلال كلماته التي بقيت ترنّ في اذني , وسعد ياسين يوسف صديقي الآخر كان ينادي عليّ من بعيد : ايّها السومريّ عدّ لنا فمازال للشعر معك بقيّة كثيرة , أما صديقي علاء ابو مريم كنت أشعر بحزنه العميق وهو ينادي عليّ : أيّها المعلّم كلنا ننتظر عودتك فلا تتأخّر علينا أيّها الحبيب .
أنّه الظلام الدامس والعتمة الثقيلة وجدتهما بعدما أغلق وراءنا الباب , كنت أسمع صوتاً يقول : 58 سنة , عندما فتحت عيني وسط هذا الظلام كانت هناك عبارة مضيئة مكتوب فيها ( الباب الخامس ) , كنت خائفا مما يجري حولي , فجأة حطّت على كتفي يد حانية برّدت هذا الخوف , فاذا هي يد أمي ( نورة ) , يااااااااالهي ..!!! , كم أشتقت الى رؤيتها والى رائحة ( شيلتها ) السوداء التي تفوح دائما برائحة الطيبة والمسك و( السِعْدْ ) , كان وجهها حزينا هذه المرّة , لم تقلْ سوى : مالذي جاء بك مبكراً الى هنا ..؟؟!! . فنظرت الى يميني فإذا بوجهي أبي ( كاطع ) يقطع عنّي لحظة الذهول والقلق , لمْ ينبس بايّ كلمة , ولمْ يفعل سوى تعليق الكثير من الأثقال فوق ظهري , حتى أحسست بأنّني سأسقط على الأرض منها , أمسكاني وسارا بي في موكب حزين وسط هذه الجموع وهذا الظلام ومن هول ثقلها , في الطريق كنت أستشعر بوخزات كثيرة في جسدي وبشيء يكمّم فمي , وشيئاً يضغط على صدري بقوّة , ( آني أخاف من جكّةْ الأبرة ) , ( ثلاثون عاماً وأنت تجكّْ الناس بالأبر وتخاف منها , ذقْ الأن ما كنت تخشاه ) .
عند نهاية الطريق فُتح باب آخر مكتوب عليه ( الباب الرابع ) , حينها تخلّى عنّي والديّ وتركاني مع الآخرين ندخل من هذا الباب , خفّت قليلاً الحمولة التي كنت أحملها , وشعرت بشيءٍ من الحيوية تعود إليّ , كان هناك نسيم قد مرق في رئتي أنعش جسدي المنهك , حالما دخلت أستقبلتني جدّتي ( حدهن ) صاحبة العيون الفيروزية والعمامة السوداء الكبيرة , أحتظنتني بشعف وقالت لي : ها ولكْ كريّم , جدّهْ شجابك هنا , ليش مستعجل .. بعدك حلو ومدوكن كما كنت ..؟؟!! , وكان يقف بقربها جدّي عبدالله الذي لمْ أرهُ في حياتي أبداً , لمْ أرهُ إلاّ من خلال صورتهِ الشمسيّة التي قام والدي بتكبيرها لدى رسّام محترف في الباب الشرقيّ وعلّقناها في بيوتنا نحن أحفاده تبرّكاً بهِ , فهو ( الزاير عبدالله ) الذي زار الأمام الرضا في خرسان ضمن حملة على راجلة أستمرت زمناً طويلاً , يقول عنه والدي انّ المرأة التي تعسّر في ولادتها كانوا يستعيون بعمامته البيضاء ويضعوها فوق بطنها فتولد بسرعة . كانا قد أمسكاني من ذراعيّ وسارا بي وسط الظلام , كنت أسمع حفيف أجنحة رقيقة تحلّق حولي واصواتاً لا أكاد أميّزها تقول : بسرعة أرجوكم , العلاج الروسيّ في الوريد , حقن هيبارين تحت الجلد لئلا يتجلّط الدم , فيال سفتراكسون 1000 ملغم صباحاً ومساءً , فيال باراسيتامول , جهّزوا أكثر من قنينة أوكسجين , ضعوا قنينتان عند رأسه وثالثة عند الحمام لئلا يختنق ونفقده . عند نهاية الطريق فُتح باب كبير آخر مكتوب عليه ( الباب الثالث ) , وتركتني جدّتي ( حدّهن ) وجدّي عبدالله , لا أدري أين سأذهب وسط هذا الظلام ومَنْ سيكون دليلي فيه , فجأة ظهر رجل وقور لا أعرفه أقترب منّي وأمسك بي مطمئناً ومهدّاً من روعي وقال لي : أنا جدّك ( عليّ ) لا تخفْ يابني , لمْ يبقَ أمامك الكثير , ولكن لماذا يا بني تستعجل الذهاب , ألا تدري بأنّ الذاهب في هذا الطريق لنْ يعود , فقلت له : أ لهذا حزننا سرمديّ..؟؟!! . فقال لي : نحن المخلّدون في العالم السفليّ . رفع عنّي بعضاً من الأثقال التي كانت قد كسرت ظهري , فأحسست بحيويّة الشباب وعنوانه تعود إلى جسدي وتدفّق مستمر من نسيم عليل يُنعشُ كلّ جسدي . أوصلني جدّي ( عليّ ) إلى ( الباب الثاني ) وقال لي : أدخلْ يابني من هذا الباب ستكون سعيداً . أُغلق ورائي الباب وكنت أسير مع الجميع وسط الظلام و فأنبرى لي من بين الجميع رجل وقورٌ لا أعرفه وأقترب منّي قائلاً : مرحباً بك يا بنّي , لا تخفْ انا جدّك ( داوود ) اخبروني بمقدمك فحضرت لأهوّن عليك بعض آلآمك , وورفع بعضاً من اثقالي ورماها جانباً وقال لي : أنت متعب جداً باثقالك هذه , ستشعر بالتحسّن القليل الآن , وفعلاَ وجدت نفسي أفتح عينيّ من جديد , كانت غرفة أنيقة بيضاءة الجدران وسرير مريح وتلفاز يبثّ الموسيقى و وبجانبي ولدي ( أنور ) ينظر إليّ بحزن وقلق , شعر ببعض الطمأنية وهو يراني أفتح عيوني بعد ثلاثة ايام من الأغماء , وقال لي : أبي , هل أنت بخير ..؟؟ , فأومأت له بأنني مازلت حيّاً . اغمضت عينيَّ من جديد وذهبت مع جدّي ( داوود ) وسط الظلام , ليتركني عند ( الباب الأول ) , وقد عدت أكثر شباباً وحيوية وسعادة وأنا ألتقي برجل وقور آخر لا أعرفهُ , حالما رآني أبتسم في وجهي وقال لي : مرحباً بك يا بني , أنا جدّك ( سلمان ) , تعال معي لتجتاز هذا الباب وتستعد للمصير الذي ينتظرك . رفع عن كاهلي كلّ الأحمال التي كنت أحملها , كان ولدي ( انور ) يعصر البرتقال ويسقيني به مستبشراً , وكان يُطعمني كالطفل ويُجبرني على تناول الطعام الذي فقدت شهيته وطعمه ورائحته , وكان يأتيني صوتها من بعيد حزينا ضعيفاً غارقاً بالدموع والتوسّل والدعاء : كريم , الله يعينك , كن شجاعاً فأنا أنتظر عودتك , لا تتأخّر عليَّ , فانت الوحيد الذي أحبّ وأريد , كريم لا اله الاّ الله , فاقول مع نفسي : محمد رسول الله . أوقفوني طويلاً أنتظر عند ( الباب الأول ) , فلا يجوز المرور من خلاله دون دليل أو ضامن , كنت وكأنّني أشرب الأوكسجين شرباً , والتهم الطعام بشراهةٍ , وكانت تدخل جسدي كميات كبيرة من الأدوية , بقيت وحدي أنتظر عبثاً مَنْ ياخذ بيدي ويخلّصني من هذا الأنتظار , كنت أريد الخلاص بسرعة لما عانيته في طريق رحلتي الطويلة هذه , إلى أن جاءني شخص لا أعرفه , أقترب منّي وهزّني بعنف من كتفي قائلا لي : مَنْ الذي جاء بك إلى هنا , يا لكَ مِنْ أحمق يستعجل اللاعودة ..!! . أعاد تعليق جميع الأحمال التي تخلّصت منها أثناء الطريق , ودفعني بعنف قائلاً : عدْ لمْ يعد لك من مكان هاهنا . وإذا بي خارج المكان , وأشعة الشمس اللاهبة تشوي الوجوه , لا أدري إلاّ والسيّارة تقف أمام باب بيتنا الذي لمْ أتوقع العودة إليه مرّة أخرى , كان أحفادي يرقصون حول السيّارة ويحملون البالونات الملوّنة و( يطشّون الواهلية فوق السيّارة ) , كنت أشبه بالعريس الذي زُفَّ إلى عروسهِ , لمْ يُسمح لي أن أترجّل من السيّارة , وخشيت أن أهلي مازالوا يخشون منّي كوني مصدر عدوى لهم , لكن أخيراً فُتح الباب وسُمحَ لي بالدخول , كان ينتظرني خروف قامت أبنتي ( أيمان ) بشرائه وذبحهِ تحتَ قدمّي , وكان أيضاً زوج من الأوّزات أبنتي ( زينب ) هي الأخرى أشترتهما فداءً لي , بينما أبنتي ( نورا ) قد هيّأت لي مكاناً هادئاً ( وطشّت ) أكثر من كيلو ( واهلية ) فوق رأسي وفوق الفراش , بينما بقيّة بناتي ( زينة ودينا وليلى ) قد عادت لهنّ صحتهنّ وكنّ بأستقبالي مع زوج أبنتي ( ايمان ) كان ( ضياء ) قد اخذ دور القيادة مع زوجتي أثناء فترة غيابي , لكنني أفتقدت أبنتي الصغيرة ( زهراء ) و وتداركت زوجتي الموقف قائلة : ( زهراء ) هي الآن تتصل بك على الواتس آب , لقد بقيت تبكي عليك مادمت أنت ترقد في المستشفى , كنت أرى صورتها في الموبايل ودموعها تجري , فلوّحت لها علامة النصر فابتسمت وسط فرحة أطفالها , فقالت لي زوجتي بحسرة وألم وحزن عميق : ( ليش هيجي سوّيت بنفسك كريم ..؟؟؟!!! ) , فقلت لها : ( موبيدي , أحبها والعباس أبو فاضل , أحبها هواي , شلون بيّ ) , فضحكت غامزة قائلة : تالله ستبقى تحبّها حتى تكون مجنوناً حقيقاً وأنا أزورك في مستشفى الشماعية .