-كرس حميد سعيد دلالة ثابتة حددها بعمر الرجل، وفتح من خلالها باباً لتوصيف الشكل الزمني ل”عمر” المرأة
-وظف الثبات في النص ليعبر من خلاله عن التمكين والقدرة على توضيح أبعاد النص ومفاهيمه اللفظية
حميد سعيد شاعر شامل ،نراه وبشكل دائم يجيد الجمع بين عناصر عدة في نصوصه،لايكتب بنمط يؤخذ عليه الجمود أو ثبات الصورة،بل يكتب بعميق التجربة التي رافقت مسيرته الشعرية، والتي نتجت عن تجربة حياتية أكثر عمقاً، وما اكتنز في مخيلته من تراكمات ثقافية رسخت التجربة الشعرية التي تفرد بدروبها دون أن يُحسب على اتجاه أو آخر،حميد سعيد ظاهرة شعرية ثقافية تنوعت فيها المساقات الشعرية،واختصرت من خلالها الأنماط والصور،فكان نتاجه حصيلة جامعة شاملة في التعبير والاحساس والتكوين الشعري،ومنه التفرد في الجمع بين عناصر النص في التعبير الشعري الذي اضفى جمالية ملموسة على نصوصه.
كتب حميد سعيد في التحديد والإبهام، وسعى ليخلق من خلالهما صوراً تنطق بفحوى المعنى دون أن يشوبه غموض،وحين يجسد الشاعر (صورة ناطقة دلالية لا تحتمل التأويل) يكون قد كرس المعنى بوضوح تام،يضع القارى أمام نص أقل ما يقال عنه أنه حقيقي دون مواربة وبعيداً عن التشبيه،(فالدلالة قصد ومعرفة)،أما غيرها فمؤكد أنها تحتاج تفسيرات قد تدخل فيها مغالطات يشوبها سوء الفهم،وسوء التجسيد لمعاني الصورةالشعرية.
في قصيدته (رجل في السبعين..وسيدة في …؟) جاء حميد سعيد بالتحديد الذي جسد من خلاله شخصية الرجل (مآل الحدث) فقال (في السبعين) دلالة ثابتة غير قابلة للتأويل، فهو محدد بعمر ذكره الشاعر بل استفتح به نصه،وأعطى توصيفاً للمرأة يفتح الباب لتحديد الشكل الزمني (العمر)،وهنا التداخل مابين التحديد والإبهام،الذي خلق سعيد من خلاله صورة تشي بفارق زمني قابل للتأويل اللفظي، فربما تكون تلك السيدة في العشرين،أو في الأربعين،أو حتى في الخمسين،لكنها حتما لن تكون في متوازية عمرية متقاربة أو متشابهة مع الرجل الذي هو في السبعين،وإلا كان العنوان على غير ما جاء به حميد سعيد.
في لقائهما تحديد للحالة التي كانا عليها (يلتقيان)،ثم تحديد للمكان (بمشفى في عمان) وهذا التداخل المكاني ينم عن نفي قطعي أن تكون السيدة المعنية عابرة،بل حاضرة لغاية محددة ،كما هو الرجل حين التقى بها،إلا أن الاستفهام الذي غير من مجرى الحدث النصي في القالب الشعري الذي رسمه سعيد وحمل دلالة احتمالية بالممكن وغير الممكن، جسدها بسؤال على لسان السيدة مفاده ( أتعرفني)، وهنا يفسر المشهد الموصوف بالدهشة تلك الاحتمالية، التي تضع الجواب على تساؤلها (ربما يكون قد شبه له) أو أنها هي فعلاً أو أنه لايعرفها أصلاً. احتمالية أو متوالية شعرية مقرونة بالتساؤل دون أن يصل القارئ من خلالها ليقين،بل يضعه بدائرة من الحيرة ،أدخلنا فيها حميد سعيد حين طرح ذلك السؤال على لسان السيدة،فقد بدت لي مندهشة ربما من نظرات السبعيني تجاهها.
تلك الحيرة تبددت حين قال سعيد (يفترقان)، ما يوحي بتجسيد الصورة بوضوح،اي أن لقائهما ما كان له أن يتجسد حتى افترقا،إذا لماذا هذه الصورة القاتمة المليئة بالتحديد والإبهام الذي جاء به حميد سعيد منذ البداية سواء بإخفاء عمر السيدة أو صورة الفراق التي أنبثقت من فورية اللقاء. الدهشة والتشويق وبراعة اكتمال الصورة ومعان النص الشعريكل تلك العناصر أراد لها سعيد أن تكون مُحددة لكمال الصورة الرائعة التي رسمها بالدهشة.
“1”
رجل ٌ في السبعين.. وسيِّدةٌ في….؟
يلتقيان..
بمشفى في عمّان..
. . . . . .
. . . . . .
أتعرفني..؟
. . . . . .
. . . . . .
يفترقان..
“2”
في شارع فيصل فرحان الجربا.. حيث يُقيم
رآها..
يتبَعُها كلبٌ جبَليٌّ حَذِرٌ..
أسرَعَ..
فابتسمَتْ..
وهي تقول.. أحقّاً لا يتذكَرُني؟
التحديد البصري (رآها) الذي رافق تحديد المكان كان أشبه بالدلالة على العنوان الصريح لواقعة الرؤية (شارع فيصل بن فرحان الجربا)،والأكثر تحديداً (حيث يقيم)، ربما يكون الشارع طويل ومتفرع،فلا يعرف القارئ أين وقع الحدث، لذلك وظف حميد سعيد التحديد “الدال” لمعرفة المكاندون أن تتشعب الرؤية إلى غير مستقرها،وهذا ثبات في النص يعبر عن التمكين والقدرة على توضيح أبعاد النص ومفاهيمه اللفظية، وذلك ليس بغريب على نصوص حميد سعيد التي ترقى ونصوص النخبة من الشعراء،ومنها مثال المتنبي حين قال(الخيل والليل والبيداء تعرفني) حيث أراد منها تحديد كل مواطن القوة والفروسية والسطوة والتمكين، فجاءت الصورة ناطقة بما تعبر عنه معان لتلك الكلمات، فهي صورة صادقة معبرة وبدقة عن المضامين الملحقة بتلك الجملة الشعرية،وهو ما أراد حميد سعيد لنصه أن يكون على هذه الشاكلة ،ونجح.
ولاستكمال الصورة الوصفية للحدث بوصف ما كانت عليه حين (رآها)، جاء على ذكر تفاصل ملحقة بالرؤية وما كانت عليه حين رآها،وما كانت تصطحبه أو يتبعها، وعادة (الكلب يتبع صاحبه)،إلا أن حميد سعيد وظف التحديد على صورة من يتبعها، فجاء بتفاصليه التي ذكرها، أي هذا النوع دون غيره، ما يوحي بثبات النص ودقة المفردات التي وظفها سعيد.
وسعى حميد سعيد لتحديد الحركة التي كان عليها الرجل السبعيني حين قال (أسرعَ)، ومنها توظيف للمرادفات اللفظية،فلو استخدم حميد سعيد مفردة (ابطأ)، ما كان لها أن تبتسم، و(الفاء سببية كما نعرف) لكانت توقفت وأمعنت وربما تبادلت معه الحديث، لكنه أسرع ولم يترك لها ذلك الخيار، وفيه (ابتسمت) من دهشتها لحركته السريعة، ليدخل سعيد تساؤل مبرر، ومكمل للمعنى لتقول (أحقاً لايتذكرني)، وفي ذلك استغرابمن تصرف الرجل السبعيني، كيف لم يعرفها دلالة على أن هناك معرفة مسبقة بينهما، وربما تأويل لعلاقة أي كان توصيفها (دون تحديد)، فكيف له أن لايتذكر.
إدهاش القارئ بصيغ الاستفهام والتساؤل يفتح شهيته لمواصلة قراءة النص، وهو ما أراد حميد سعيد بخبرته الطويلة واقتداره على صياغة الحدث مضمناً إياه اساليب الدهشة والإستغراب، ناهيك عن التحديد الدقيق ليخلق من نصه دلالة عميقة على وقوع الحدث وفق تفاصيل ماجاء في النص الشعري وما احتواه من تحديد وإبهام.
“3”
كان يُراقِبُها..
وهي تُحرِّكُ جمرَ الأرجيلةِ..
هل هي؟
أم تلكَ امرأةٌ تشبهها..
. . . . . .
. . . . . .
غادَرَت المقهى..
فتذكَّرَ خفقَ عباءتِها..
ابتعدَتْ..
. . . . . .
. . . . . .
شخنا.. وتغيَّرت الدنيا
إلا خفق عباءتها.. ظَلَ كما كانْ.
التوصيف بالتحديد (كان يراقبها) يقدم صورة مماثلة للحدث، وهو ما سعى حميد سعيد لتوظيفه في النص الثالث من القصيدة، وتجسيده لحركة السيدة في المقهى (وهي تحرك جمر الأرجيلة)،الصورة الحركية تمنح النص ملامح الانتقال من الثبات إلى الحركة المنقطعة،ذلك ان (تحريك الجمر) حركة مؤقتة،تعود بعدها الحالة لسابقتها.
هذه الانتقالة الحركية وفق التحديد اللفظي أو التصوير الحركي المكاني المتسلسل يخلق جواً من الإنفعالية الحركية المليئة بالتشويق لدى القارئ ليستمر بمتابعة الحدث، منذ أن استهل حميد سعيد نصه ب (كان يراقبها)، ومن ثم أتى على تصوير حركتها، ثم التوقف الذي يتطلبه موقف الإستفام والمراقبة (هل هي؟)، ليقوده التساؤل إلى الشك، وهذا الأخير تحديد لحركة فكرية في تضاد مع اليقين.
وبالتحديد أيضا الذي قاد حميد سعيد (ليقطع الشك باليقين) عبر ما حدده بفعل حركي تمثل بالمغادرة، وهي انتقالة في التحديد الحركي تتمثل بإستمرارية الحركة وعدم محدوديتها كالسابقة حين (حركت الجمر)، إلا أن الذي تيقن منه سعيد وبات في حكم الحقيقة أنه (فتذكر خفق عباءتها)، وتلك دلالة معرفية شملها الشاعر بما جاء به من تحديد لحركة بعينها دون سواها حددت شخصية المرأة التي أستحوذت على كل مجريات الحدث الشعري.
وحين ذهب حميد سعيد ليضع خاتمة تتناسب وصورة الحدث الذي رسمه وفق مجريات أو عناصر التحديد اللفظي أوالمكاني بصوره المختلفة، جاء بمفردة (أبتعدت) وفيه من التحديد ما يوحي بأنها غابت عن الأنظار، أي غيبها من المشهد، فلم تعد الحركية هنا مرتكز لبناء الصورة الشعرية، بل بناها سعيد على تحديد المكان فقط الذي غابت عنه، ثم التحديد الوصفي لحالة من يصف (شخنا..وتغيرت الدنيا)، إلا أن اليقين لايتغير (إلا خفق عباءتها.. ظَلَ كما كانْ)، ما أضفى من خلاله حميد سعيد نصه الثبات على صورة الحقيقة التي لاتتغير بفعل الزمن.
“4”
في دائرة الهجرةِ..
فاجأه صوتُ امرأةٍ،، يأتي من زمنٍ جدّ بعيدْ..
أأنتَ؟
بلى..
أوَ أنتِ؟
. . . . . .
. . . . . .
لقد كنتُ أحدِّثُ أحفادي عنكَ..
وهذا أوسطهم..
سيزورك َ في المقهى.. ذات صباحْ.
“حديث ذو شجون” جاء به حميد سعيد ليجسد حقبة ماضية من الزمن جسدها عبر تحديد المكان والذات ( في دائرة الهجرة)، (أأنت)، ثم أكد التحديد بمعرفة (أو أنت)، وهي أيضاً للأستفهام حول المبهم، والمبهم إنسان أو مكان أو صورة أو عمل أو حتى كلام، تتعدد صيغه، لكنه يحمل صفة الإبهام بعمومه، وهو ما يُستفسر عنه بدهشة السؤال.
(أو أنت)، إثبات لشخص لم تتأكد هويته بعد، لكن السؤال الذي سبق من تلك السيدة بإستغراب حددت من خلاله هوية الرجل السبعيني، وهنا بات المشهد أكثر وضوحاً مما كرسه حميد سعيد في استهلال نصه، وفي ذلك وظفت السيدة التحديد كفاصل بين زمنين جرت فيهما الأحداث حتى وصلت إلى (الاحفاد)، الذين نقلت لهم مجرياتها بتحديد شخصت من خلالها صورة الطرف الآخر، فلم يعد بعدها للإبهام جدوى في هذا النص، فقد عرف القارئ أن الحديث الذي يدور الآن هو بين الرجل السبعيني والمرأة التي لم تعد …… كما جاء في استهلال نص حميد سعيد (رجل في السبعين..وسيدة في …؟)، بل أمرأة تنقل ما جرى لأحفادها، وبخاصة من ذكرته (هذا أوسطهم) وهنا تحديد أيضا لهذا الحفيد دون سواه، وإبهام لمن لم يكونوا معها منهم، ثم (سيزورك) تحديد لمن سيقوم بفعل الزيارة، (في المقهى) تحديد مكان، (ذات صباح) تحديد للوقت وإبهام للموعد، وهو ما ذهب إليه حميد سعيد ليترك باب التاويل مفتوحاً ربما على موعد تلك الزيارة المرتقبة وما سيدور فيها، لذلك قلنا “حديث ذو شجون”.
“5”
تقولُ له جارتُهُ..
بالأمس.. وكنتُ أُمَّشطُ شعري..
في صالون التجميلْ
شاهدتُ امرأةً بغداديةْ
وهي عجوزٌ عجفاءُ.. تُكَحِّل عينيها
وتلوِّن خديها وأظافرها والشفتينْ
مثل صبيةْ
تبادلنا القولَ..
ذكرتُ لها اسمك..
قالتْ:
كانْ.
تحديد الشخوص منعطف جميل في النص، فهو دلالة معرفية تشخيصية للفعل اللفظي أو الحركي، ومنه يعرف المتكلم، ويستعلم عن الحدث، (تقول له جارته)، نفهم من ذلك أن الحديث يدور بين شخصيتين، وأن الحوار الدائر هو عن إخبار، وفي الحديث (رجل وإمراة)، وأن هناك ما يقال،ولابد أن يسمعه، وهو حديث عابر ربما حدث في الطريق، أومكان ما،وحديث الجارة فيه تحديد حركي، وتحديد للزمان والمكان (بالأمس،أمشط شعري، في صالون التجميل)، وفيه أيضا تحديد بصري (شاهدت).الجمع بين كل تنوعات التحديد، هو تنويع لأشكال الصورة الشعرية التي أراد لها حميد سعيد أن تكون بعيدة عن الرتابة أو الثبات في تشكيلها، لذلك أصر أن يبدل التوظيف من حالة إلى أخرى في متن النص الذي جاء فيه بصور متنوعة.
وفي نصه سعى للجَمع بين التحديد والتوصيف، والذي أفرد له مساحة واسعة من تجسيد الصورة الشعرية التي بنى عليها استكمال مجريات الحدث بتداخل الحوار ما بين الجارة التي شاهدت ومستمعها (الرجل السبعيني)، فجاء بتوصيفات حدد من خلالها تطور الحالة الوصفية للنص عبر ما جاء من توصيف على لسان الجارة (بغدادية، عجوز،عجفاء، تكحل عينيها، تلون خديها، وأظافرها والشفتين، مثل صبية).
إنّ تغيير مسار النص من توصيف الصورة إلى استكمال صيغة الحوار الدائر ما بين الجارة والرجل السبعيني يُسهم في تعزيز الجانب السردي، ويُضفي مزيدًا من الحيوية على المشهد الشعري، وربما كان القصد منه تثبيت تأثيرات التداخل ما بين العناصر الفاعلة في النص، والتي تجسد النمط المعرفي بشخوص الحدث، والمبهم الذي أنتهى إليه الحوار حين عمدت الجارة على التصريح (ذكرت لها اسمك)، من خلال الحوار الدائر،وهنا الإخبار حين قالت (كان)، وهذه فيها من التحديد والتأويل الذي يحتمل الكثير.
حين يبتعد النص عن التكرار والنمطية، وهي صفات لاتتسم بها نصوصحميد سعيد، تجده مدهشاً يمتاز بحدة الصورة قبل جماليتها، ودقة توصيف الحدث فيه قد تجاوزت الشكل إلى التعايش النصي، وكأن كل مايُكتب يخيل للقارئ أنه يعيش لحظاته، تلك ميزة الكبار حين يجسدون حدثاً ما.
“6”
في الدوّار الرابعِ.. وهو يحاسبُ صاحبة المطعمِ..
مرّتْ..
أصبح غير بعيدٍ عنها..
يا..
أنتَ هنا..؟
منذ سنينْ..
وأنا أسكن في هذا الشارع.. منذ سنينْ
وتُشيرُ إلى بيتٍ غير بعيدٍ.. بعصاها
زُرْني حين تشاءْ..
. . . . . .
. . . . . .
وبعدَ أسابيع.. يجيء ليسأل عنها
يُخْبِرُهُ البوابُ.. بأن الله توفاها.
حين يكون التحديد دلالياً يركن الشاعر إلى تثبيت المحدد، فيكون العنصر الدلالي عنوان، (في الدوار الرابع) تحديد بمكان هو معلوم طبعاً،لكنه دلالة مكانية أراد منها حميد سعيد أن يلفت نظر القارئ إلى أن الحدث الذي شكل نصه عليه يتمثل في المكان،وأن الفعل الغالب على الدلالة حركي، صورة جميلة لكنها ليست نمطية. الحركية في النص تثري المشهد الشعري، وتمنحه رؤية مكثفة حين يلمس القارئ أن هناك تقلبات في المشهد تقوده نحو استدراك المعنى وتَفهم الحوار،خاصة إذا كان النص يتضمن حواراً متبادلاً يشي بملابسات الصورة وما احتوته من تفاصيل.
(مرت)على مقربة منه (أصبح غير بعيدٍ عنها)، وهذه ال (غير بعيد) تحديد مكاني أشتمل على صيغة حوار جمع فيه الشاعر الدلالة المكانية للمتكلم والفعلية التي تمثلت بالاستماع من قبل الطرف الىخر (المستمع)،فلكل حوار طرفان،متحدث ومستمع،يجمعهما طرفا الحديث وتبادل الصورة الفعلية لما جرى (الحدث). ومثلها (يا) للاستغراب الذي اشتمل على التحديد بالمكان (انت هنا)،إشارة للرجل السبعيني،كي نبعد المبهم عن صيغة الحوار،فهو معلوم ذلك الرجل الذي بنى على سيرته حميد سعيد النص، وما الحوار إلا سرد لما تضمنه النص الشعري من بناء صُوري استند فيه الشاعرعلى تقلبات المشهد المكتظ بالذكريات.
وظف حميد سعيد صيغ لغوية عميقة باسلوب مبسط لا مبالغة فيه ولاتعقيد،اراد من خلاله أن يلج الوصف عبر ما يضمنه من تحديد للمكان والزمان وحتى تقلبات الحوار الذي دار بين الرجل السبعيني والمرأة التي بدا أنها قد أخذت السنين منها ما أخذت،كما وصفها النص السابق (وهي عجوزٌ عجفاءُ)، النص يحمل بعداً وجدانياً وذلك جلي وواضح عبر ما ينقله من مشاعر إنسانية مؤثرة، لقاء لم يتحقق،لدعوة وجهت لكن الأقدار منعت تحقيقها،ربما اراد حميد سعيد أن يلفت نظر القارئ عبر استخدامه ل(علامات الحذف للتعبير عن الأوقات التي مرت وما فيها)،من انتظار ومشاعر أخرى، لكنه حين عاد ليؤكد استخدامه للتحديد الدلالي الذي وظفه ليجسد نهاية القصة التي بدأت بمشاهدة، ومرت بدعوة،وختمت بمفاجأة.
“7”
البردُ شديدٌ في عمّانْ..
والرجلُ السبعينيُّ.. يدبُّ على غير هدى..
يتدفَّأُ بالسعي إلى حيث.. سيلقى الأصحابْ
وعندَ البابْ
يتذكَّرُ.. أيام البرد ببغدادْ..
وهي ترافقه.. أينَ هي الآن؟
كانت تضحكُ.. حين يناديها.. فرط الرمانْ
وهل ظلَّ البردُ هناك.. كما كانْ؟
أم هاجرَ..؟
كي يبحث عنها.. في كل مكان؟
الهروب من الوحدة إلى مواجهة الذات، هو تحديد مكتظ بالإنهزامية التي تعكس حال من يعيش حالة استذكار عميق لمن كانت تملا الأجواء دفئاً بقربها، لكن والحال برحيلها ما عاد للفرح من مشهد حاضر في نفس الرجل السبعيني،تحديد بتوظيف المشاعر،أي الوجدانية كما ذكرنا في السابق، في الفقرات الأخيرة من النص أطنب حميد سعيد في تفاصيل التحديد المكاني والزماني، (البرد شديد في عمان)، وهي كناية عن تقلب الزمن الذي تمثل بعواطف أختلف في معانيها والشعور الذي رافق تلك المعاني،تحديد لزمن ماضٍ مقارنة بما هو عليه الآن. وعن تحديد مكاني يتقلب بين الواقع وما تحتويه الذاكرة،حين يستذكر الشاعر (بغداد)،لقد كرس حميد سعيد مفردات نصه لتحمل رموزاً ودلالات جاء بها لتحديد المعنى ما بين (الوحدة، والموت،والعاطفة) ،ولتضيف مساراً أخر تمثل في الفقد ما جعل النص أكثر شاعرية.
“8”
يمرُّ اللونُ الغامضُ كلَّ مساءْ
حيث يكون الرجل السبعيني.. مُطلاً من شرفة منزله..
يتساءل.. من هذا اللون الغامض؟
ثمَ تخيله.. امرأةً
أعطاها اسماً..
واختار لها زمناً.. وحكايات ٍ
كان يقول.. لماذا لا تسأل عني؟
أو ما كنا من قبلُ معاً؟
مرَّ اللون الغامض يوماً.. قبل غروب الشمسْ
فرآه الرجل السبعيني.. وكان ْ
بستاني الجيرانْ.
وهنا يأتي حميد سعيد على التحديد الملموس والمنظور (اللون الغامض)،ويعود لتكرار الإبهام (الغامض)، وفي الغموض كثير من المبهم، هل هي نظرة سوداوية سيطرت على مشاعر الرجل السبعيني بعد رحيل تلك المرأة، وبالتحديد يقول (كل مساء) أي صار هناك شعور بالاعتياد (تحديد للزمان)، الغريب في مشهد الاعتياد هذا،أن السؤال كان بصيغة استفهام (من هذا اللون الغامض)، واللون يسأل عنه بما وليس بمن، أي أن هناك خلط في المفاهيم لتكون الصورة على قتامة ذلك اللون.
تحديد اللون هو كناية عن الموت ربما أراد منه حميد سعيد (المرأة) التي وافاها الآجل، وذلك تأويل وارد إذا أطلعنا على البيت اللاحق من النص حيث يقول (ثم تخيله ..أمرأة)،( أعطاها اسماً)، أي أن كل ذلك جرى في المخيلة التي حددها بشخص وزمان ومكان دون عن الآخرين،وحين أدخل الإستفهام كان الشاعر يخاطب ذاته، اي أن الحوار كان داخلياً،وفي ذلك تحديد ذاتي بين الذات الشعرية وتجليات النفس وبما تجود به من خلجات ومشاعر أوهواجس (كان يقول.. لماذا لا تسأل عني؟ أو ما كنا من قبلُ معاً؟).
غالب على هذا النص طابع الغموض، بدء به حميد سعيد ب(اللون الغامض)، ثم عمد إلى حوار داخلي بتساؤل غامض، والغموض ربما يكمن في أن السؤال بإتجاه واحد، دون جواب يفسر ما أحتواه السؤال من غموض، إلا انه ذهب إلى تحديد الزمان (قبل غروب الشمس)، وإلى تحديد نظري (فرآه)، ثم تشخيصي (الرجل السبعيني)، وتحديد تحقيقي (فكان) أي شخص بعينه دون سواه، ولايحتمل ذلك التأويل (بستاني الجيران).
صورة جميلة حددها حميد سعيد بالمبهم ،وأختتم تفاصيلها به، أحتوت مشاهد عدة أرتقت وسياق النص بموسيقى متفردة ودقة توظيف العناصر السمعية والمرئية في المشهد النصي، فكانت كما توقعنا لوحة أزادنت جمالاً بالتحديد والإبهام.
“9”
تهاتفهُ..
وتقول.. رأيتُكَ في المقهى.. كنتَ بعيداً!
أوَ هذا أنت؟
بلى..
ماذا تنتظرين..
من رجل يعد السبعين..؟
. . . . . .
. . . . . .
ثم رآها..
ماذا يبقى من سَيِّدةٍ في….؟!
(تهاتفه)،هي دون سواها،وهو تحديد شخصي مقرون بزمان محدد،وظفه حميد سعيد لاثبات سياق الحبكة التي أعتمدها في نصه،فهي تدور حول (رجل في السبعين وسيدة في..)، (لقائهما ،التعارف، الغموض،عدم التيقن،والاحتمالات الاخرى)،التحديد في إنتقاء الألفاظ التي تعبر عن معنى دون سواه،وهذه براعة يرسم من خلالها صور اللقاء الذي يجمع بين السبعيني والسيدة التي أفصحت عن رؤيتها له في المقهى،وجاء في ذلك القول الذي بنى سعيد مركزاته على تحديد المكان (كنت بعيداً)،وهنا تحتمل الرؤية الشك واليقين (هو أم لا)،ومما دلل على هذا التفسير (الإستفهام الوارد بالسؤال) الذي جاء بقول السيدة، (أوَ هذا أنت؟).
هو خطاب قد يميل للعاطفي تحيط به الذكرى، وهذا تحديد للزمن الماضي وما يتبعه من مشاعر وجدانية تغلف فحوى الخطاب، (بلى)،جواب قاطع يطغى عليه تحديد شخصي،وتعريف بالذات دون ضبابية،أردفه باستغراب ودهشة (ماذا تنتظرين.. من رجل بعد السبعين..؟)،وهذا تحديد بالقدرة من عدمه،والفراغات التي لحقت في النص تتمثل في التصريح على القدرات،ويفهم منها أن لاقدرة له، جواباً على (ماذا تنتظرين).
ثم استكمل الشاعر بالتحديد البصري (ثم رآها) فأستيقن أنها لم تعد كما كانت، (ماذا يبقى من سيدة في ….؟)، وهنا بات تحديد التوصيف الشكلي لما آلت إليه تلك السيدة، أشكالية المتغير العمري الذي كرسه في التحديد الزمني والذي جسد منه صورة السيدة بعد المآل.
“10”
يَحملُهُ الوهمُ إلى ماضٍ كانْ..
فيرى.. امرأةً كانتْ.. ثمَّ طواها النسيانْ
تخرجُ من بيتٍ يتخيَّلهُ..
وتُحييهْ،
يردُّ تحيتها..
ويمدُّ يداً ليصافحها..
. . . . . .
. . . . . .
فيُنبهه صوتُ النادلِ في المقهى..
وهو كما كانْ.
(الوهم) هو تشويش فكري، لايوحي بحقيقة، وحين يستهل الشاعر نصه بصورة من صور الوهم يكون قد أضفى على هذا النص صفة عدم التأكد، أراد حميد سعيد في هذه أن يحتكم إلى زمن ماضٍ، لكنه لم يجسده كصورة حقيقة معاشة بما فيها من تفاصيل، بل جعلها منقولة عن الوهم ليرى من خلالها صورة تلك السيدة (الماضي)، التي ذكرها (ثم طواها النسيان)، تحديد بصري اشتمل على السابق واللاحق، ماضٍ غاب عن الذاكرة فبات وهماً يوحي بصور تغذي البصر، لكنها وهمية يتخيل منها (بيتاً) دون سواه، وفيه تحيد للمكان على الرغم من الخيال الذي لف المشهد و تَصَورهِ لشكل البيت الذي خرجت منه المرأة.
لكنها (حييته) ورد (تحيتها)، (ثم مد يداً ليصافحها) تحديد ذهني أراد منه الشاعر أن يوحي للقارئ بأن الصورة التي بنيت على الوهم والذي غطى المشهد الشعري برمته، وأخذ الرجل بعيداً في دروبه، استفاق منه حين (نببهه صوت النادل في المقهى)، ليختم حميد سعيد بتحديد الحالة التي جسد فيها اختلافات نصه مابين (التحديد والإبهام)، و ليرسم لوحة غاية في الجمال بناها على التصور الذي دعمه بجملة عناصر فاعلة غالبها (التحديد في الزمان والمكان)، وهما من أبرز عناصر بناء النص،وما يميزه من قدرة على تجسيد التوصيف والدلالة في معظم النصوص الشعرية، فلا صورة شعرية مكتملة ما لم تحتوي على تفصيلات الزمان والمكان.
نص وجداني أمتاز بدقة التخيل والوصف، نتج عنه صورة شعرية متكاملة تحمل في طياتها مترادفات متنوعة ما بين الوهم والحقيقة، نص يحمل تعبيراً حقيقياً للحظات الحنين للماضي، أفضت إلى الوهم الذي ملأالمشهد بصورة المرأة التي كانت (فرط الرمان)، وأفضت ( ثمَّ طواها النسيانْ)، تجسيد لصراع مابين الذاكرة والواقع، الوحدة والشوق، بين الواقع والخيال الجميل الذي عَلق منه ما عَلق في الذاكرة، نص بناه حميد سعيد على التحديد والإبهام ليجسد من خلاله التمني والحقيقة المعاشة