23 نوفمبر، 2024 12:07 ص
Search
Close this search box.

رجل الدين والسياسة والتجارة

رجل الدين والسياسة والتجارة

مرة في تاريخ العرب والمسلمين تمنع سلطة سياسية رجال الدين من الاشتغال بالسياسة أو التجارة، والتفرغ للوعظ والإرشاد في المسجد والكنيسة فقط لا غير.
فقد أصدر جلالة الملك محمد السادس مرسوما جريئا وشجاعا دعا فيه رجال الدين المغاربة إلى التحلي بـ ” صفات الوقار والاستقامة والمروءة”، ومنَعَهم من التدخل في السياسة، ومن مزاولة أي نشاط يدر مالا، سواء في القطاع الحكومي أو الخاص، إلا بترخيص مكتوب من الحكومة، لكنه استثنى الأعمال العلمية والفكرية والإبداعية التي لا “تتعارض مع طبيعة مهام رجل الدين”. وكان قانون مغربي آخر خاص بالانتخابات قد منع استعمال المساجد لأغراض انتخابية لا علاقة لها بالدين، وذلك من أجل بناء مجتمع متراص متضامن، متمسك بأصالته ودينه الصحيح، ومتفتح على روح العصر، ومبتعد عن كل تعصب وتطرف وغلو وفساد.

ويبدو واضحا أن المرسوم الملكي الجديد أدرك أهمية المساجد وخطورة دور خطبائها وأئمتها في صياغة ثقافة المجتمع وعقيدته. ففي المساجد تجري تعبئة قلوب المسلمين وأرواحهم وعقولهم بالرحمة واللين أو بالقسوة والعنف، بالمسالمة والمسامحة والوسطية أو بالتطرف والغلو والتكفير، بالأفكار الظلامية المتحجرة والخرافة أو بالمعاصرة والتحضر والحداثة.

كما أدرك أيضا أن المواجهة الحقيقية للإرهاب لابد أن تبدأ من المسجد، ثم المدرسة والمنزل، لتنقية العقول مما يعلق بها من بذور العصبية والعنصرية والطائفية والفئوية، ومن أجل الحفاظ على أمن المجتمع ووحدة الوطن ومواطنيه.

والحقيقة هي أن المجتمع المغربي مسالم متصالح مع نفسه ومع غيره، ومتدين جدا ولكن بوسطية واعتدال. وهذا ما جعل المغاربة، وخاصة رجال الدين الذين استهدفهم المرسوم، يرحبون به، ويرون فيه حماية لحاضرهم ومستقبل أجيالهم القادمة مما يدور في العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا وغيرها من حرائق ومذابح وخراب.

فلو صدر مثل هذا المرسوم في العراق أو إيران أو لبنان أو سوريا أو ليبيا أو أفغانستان، لقامت الدنيا ولم تقعد. فماذا يصنع الآلاف من رجال الدين السياسيين والتجار الذين يستخدمون الدين جواز مرور إلى السلطة والجاه والمال؟، ولكي يتسلقوا ويقتنصوا على مراكز الحكومة والبرلمان، ويتمكنوا من التحكم بمصير الوطن والمواطنين، وهم في أغلبهم لا يخدمون سوى مصالحهم و مصالح مؤسساتهم وأحزابهم الضيقة وحدها؟.

بعبارة أخرى، لو صدر مثل هذا المرسوم من خمسين سنة لما كان اشتغل الخميني بالسياسة، ولما لجأ هاربا من الشاه إلى العراق، ولما خاصم صدام حسين، ولما طرده نظام البعث من العراق بعد اتفاقه مع الشاه في الجزائر عام 1975، ولما احتضنته فرنسا ودول الغرب الأخرى، وباركت معارضته للشاه، ولما سمحت لأشرطة الكاسيت التي كان يدعو فيها إلى قلب نظام الحكم بالقوة بأن تطبع في باريس بملايين النسخ، ويتم تهريبها، بعلم المخابرات الأمريكية والأوربية ومساعدتها، وموافقة تركيا على مرورها لتنتشر في إيران، ولما سقط

نظام الشاه، ولما أقام الخميني نظام حكمه الديني الطائفي في إيران، ولما أمر بتصدير ثورته إلى دول الجوار، ولما كانت قامت حرب الثماني سنوات بينه وبين صدام حسين، ولما قُتل وشرد واختفى عراقيون وإيرانيون بالملايين، ولما اضطر صدام لغزو الكويت، ولما جاءت أمريكا وأوربا ودول شقيقة لطرد الجيش العراقي وتدميره بحجة تحرير الكويت، ولما كان حصار الشعب العراقي عشر سنوات، ولما كان ملالي طهران يشعلون الحروب المذهبية في العراق وسوريا ولبنان والمنطقة، وما اضطروا لمحاربة صدام بمليشيات عراقية طائفية مسلحة، ولما أنشأوا المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة وغيرهما، ولما شكلوا فيلق (بدر)، ولما فجروا واغتالوا وفخخوا، ولما سلطوا وكلاءهم العراقيين على المعارضة العراقية ليتحكموا بمؤتمراتها، ولما اختارتهم الإدارات الأمريكية المتعاقبة حلفاء، ولما استطاعت غزو العراق، ولما سلمتهم السلطة وجعلت منهم رؤساء ووزراء وسفراء وقادة أمن ومخابرات، ولكان عمار الحكيم اليوم، مثلا، ليس أكثر من إمام في حسينية، وهادي العامري ليس غير موظف في شركة أو مخبز أو دكان عطارة، ونوري المالكي معلما أو مدير مدرسة ابتدائية، وقيس الخزعلي (قائد مليشيا عصائب أهل الحق) عامل بناء مهاجرا يبحث عن لقمة عيشه في تكريت أو الموصل أو أو النجف أو كربلاء، ولما دار في رأس قاسم سليماني حلم دخول العراق إلا زائرا بتأشيرة زيارة للعتبات المقدسة.

باختصار، لما كان العراق تخلف وعاد مئة عام إلى وراء. فقد مزقوا وحدته، ونهبوا ثرواته، وداسوا على سيادته وكرامته، وجعلوه دولة فشلة، بكل الموازين والمفاهيم والمقاييس. ولولا ظلمهم وأحقادهم الطائفية وسياساتهم التهميشية العدوانية الحاقدة لما اضطر العراقيون في المحافظات السنية الست إلى الاعتصام والمطالبة بالرحمة والعدل والكرامة، ولو لم يقتحم نوري المالكي خيمهم ويمزقها ويعتقل أو يقتل متظاهريها، بتوجيهات إيرانية مؤكدة، لما تحولت المحافظات الست إلى حاضنة للطائفيين والمتطرفين، ولما تسلل داعش بين صفوفهم، ولما استطاع أن يقوى وينتشر ويصبح الكابوس الذي ينذر الدنيا كلها بالويل والثبور لسنوات قادمة، ولما سقطت الموصل والرمادي، ولما تسللت قوافل القتلة الطائفيين من أفغانستان وإيران، ومن كل بقاع الدنيا الواسعة، لقتال داعش أو للقتال معه، ولما أفتى السيستاني بالحشد الشعبي، ولما ظهرت مشكلة السنة الهاربين من داعش، ولما منعتهم حكومة التحالف الشيعي الإيراني من دخول العاصمة، ولما ظهرت أكذوبة تسليح السنة لمقاتلة داعش، ولما طـُرد أهالي مدن عديدة في ديالى وصلاح الدين والأنبار من ديارهم، ولم يسمح بعودتهم، حتى بعد تحريرها من الداعشيين.

ترى كم من الأموال والأرواح والمصانع والمزارع والمدارس والمستشفيات تسبب رجل الدين السياسي في خسارتها وتدميرها في العراق وسوريا ولبنان واليمن وإيران؟

ولو كان مرسوم الملك محمد السادس صدر في العراق قبل نصف قرن لكانت الدنيا غير هذه الدنيا، ولكان العراق اليوم فرنسا أخرى أو سويسرا أو السويد، عَمارا ورُقيا ورفاها وعزة وكرامة. ولكن جزى الله الذين كانوا السبب.

أحدث المقالات

أحدث المقالات