23 ديسمبر، 2024 8:12 ص

رجب وفرحان واتهامات الصغار

رجب وفرحان واتهامات الصغار

لم تكن قراءتي الأولى في منتصف الثمانينات لشرق المتوسط  مثلما كانت في القراءة الثانية بعد عشرة أعوام والثالثة قبل بضعة أيام . ففي كل مرة أجد فيها ما لم اقرأه في القراءات السابقة . ففي كل قراءة يتسع عدد الشخوص ويتشابه الواقع من خلال التصرف والسلوك والتعاون . انه الشرق المتوسط ليس في رواية عبد الرحمن منيف فحسب وإنما في واقع فرحان بن سعيد الضحاك ــ شخصية مفترضة ــ .. الواقع الذي تلتقي في كثير من فصوله مع حياة رجب الشخصية الرئيسة في الرواية .
فهو حين دخل السجن لم يكن قاتلاً أو حاملاً بندقية أو ارتكب جرائم مخالفة للقوانين الوضعية والسماوية . وإنما أشهر سلاحه بالكلمة من اجل الحرية كي يعيش أسوة بالآخرين القاطنين في الضفة الأخرى . الكلمة كانت الجسر نحو التغيير الذي أراده فرحان ورجب ومثلهما مئات وآلاف الذين قمعوا في الأقبية والسجون التي تنماز بها الأنظمة الدكتاتورية التي تفرخ بإشكال وألوان مختلفة , وتمارسها تحت أغطية شتى .
يقول رجب لقد دق رأسي بالجدران مئات المرات , كما تدق المسامير في أخشاب السنديان ! ودق الرأس بالجدران عبارة عن بداية سمفونية العذاب : بعد ذلك ضربوني بالسياط . كنت عارياً عندما ضربوني , كانوا يتعبون من الضرب , كانوا يتناوبون , وكانوا أقوياء ,  فإذا انتهى الضرب بدأت النيران تشتعل في جسدي . كانوا يطفئون السجائر في وجهي , في صدري. وفي أماكن أخرى , ليس هذا كل شيء , لقد امسكوا بخصيتي وجروهما , شعرت تلك اللحظة أني أموت , ثم علقت سبعة ايام في السقف . كانت يداي مربوطتين في حبل , والحبل يجرني إلى السقف , فأوقف على إطراف أصابعي , عندما انتهت الأيام السبعة , كانت ساقاي بحجم سيقان الفيل : متورمتين , زرقاوين , ثقيلتين .
وحين سقط في لحظة المرض تشبه الموت وقع على كل ما أرادوه . أطلق سراحه في المرة الأولى ونشر اسمه في الصحف وقرأه التلاميذ لم يكن يعلموا بحجم العذاب .. نظروا إلية بازدراء وهم جالسون في المقاهي لم يتعذبوا ولو للحظة واحدة مما عاناه .
تذكر فرحان ما جرى له من معاناة قبل عشرة أعوام وبضعة أشهر يوم اعتقل في مديرية ألامن.. ولحظات الرعب التي عاشها . ففي أول ليلة وهو مقموع في غرفة رائحتها تشبه حقل دواجن من شدة ازدحام المعتقلين فيها , ورائحتهم التي تبعث على الغثيان الذي يتلاشى مع سهرة العذاب والدمار الذي يبدأ من الساعة الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل .. صراخ يحطم السكون , يشبه صراخ النساء الذي ينتهي بالعواء المغموس بالجوع والذل والاهانة .
سهرات يومية يربط فيها السجناء على قضبان الأبواب التي تتوسط السجن ليسمع الجميع هول العذاب الذي يبعثه الآخرون ويطير النوم من العيون التي تترقب الدور الآتي لأصحابها . بل تتمنى أن لا يأتيها في هذه الليلة على الرغم من أن الزمن يتوقف مثلما القلوب التي تكاد أن تسكت من شدة الرعب .
ساعات الضرب والسياط على الأجساد العارية تنتهي كل يوم عند شروق الشمس حيث يذهب الجلادون إلى النوم ويأتي دور الآخرين من رجال الأمن بتوزيع الواجبات بالتنظيف والمناداة بعدم النوم .. كي تظل الأجساد خاوية ومنهارة لأول جولة من سهرة الليل اليومية .
تذكر فرحان بن سعيد تلك اللقطة من فيلم طويل نقش في الذاكرة حين وصل بقراءته لسطور في شرق المتوسط عندما نظر التلاميذ إلى رجب الذي وقع على كل شيء بعد سنوات من العذاب .
التلاميذ الذين كبروا اليوم وتعلموا كتابة التقارير .. وتعلموا بضعة كلمات وراحوا يتشدقون بها عن الوطن والحرية وفرحان يستمع أليهم صامتاً , لأنه في كل زمن كان متهماً ؟!