رجال الدين وقمع الحريات: من الفتوى إلى السيف

رجال الدين وقمع الحريات: من الفتوى إلى السيف

الأديان السماوية جميعها رسالات إنسانية جاءت من الله الرحمن الرحيم لإعلاء قيم العدالة والرحمة والمساواة. غير أنّ التاريخ يكشف لنا أنّ رجال الدين في أديان مختلفة قد انحرفوا عن هذا الهدف السامي، وحوّلوا الدين إلى وسيلة تسلط وهيمنة.
في أوروبا، كانت الكنيسة تبيع “صكوك الغفران” وتُقدّس رجال الدين بوصفهم الممثلين الحصريين لإرادة الله، حتى اندلعت ثورة مارتن لوثر التي عرّت هذا الاستبداد الكنسي. والأمر نفسه تكرر في مؤسسات دينية أخرى، حيث اعتُبر من أطاع رجال الدين فقد أطاع الله، ومن خالفهم فقد خرج عن الدين.
في الحوزة الدينية بالنجف وكربلاء، لم يكن الأمر مختلفًا كثيرًا؛ إذ تحولت مؤسسة المرجعية من فضاء للاجتهاد إلى ساحة صراع دموي وفكري. سلاح التكفير، الفتوى، وأموال الخمس والزكاة، إضافةً إلى الاستعانة بالشقاوات (البلطجية) والعشائر، كانت أدواتٍ لقمع الخصوم وتشويه المعارضين.
الفصل الأول: مقتل الميرزا محمد الأخباري
أبرز حادثة تُظهر طبيعة الصراع داخل الحوزة هي حادثة اغتيال الميرزا محمد الأخباري سنة 1232هـ. فقد أصدر الشيخ جعفر كاشف الغطاء، المرجع الأصولي، فتوى بتكفير الميرزا ووجوب قتله.
نفذ العملية ابنه الشيخ موسى مع بعض الأتباع، وبالتنسيق مع عبد الله شُبر في الكاظمية.
اقتحموا بيت الميرزا ليلًا، وهاجموه بالسيوف، وقتلوه مع بعض ضيوفه وروّعوا أسرته.
المفارقة أنّ الجريمة تزامنت مع عقد قران ابنة عبد الله شُبر على ابن الشيخ موسى، في مشهد يكشف التداخل بين الفتوى، الدم، والمصاهرة السياسية.
الأصوليون بعد الحادثة دافعوا عن الفتوى وبرّروها بأنها لحماية العقيدة، وهو ما يكشف أن التكفير لم يكن اجتهادًا بريئًا بل أداةً سياسية للتصفية.
الفصل الثاني: قمع يوسف البحراني
الشيخ يوسف البحراني (ت 1186هـ)، صاحب كتاب الحدائق الناضرة، واجه ضغوطًا متواصلة بسبب تمسكه بالمدرسة الأخبارية. لم يُقتل كما الميرزا الأخباري، لكن عمليات تسقيط منظمة استهدفته:
منع طلاب من حضور درسه.
نشر شائعات واتهامات فكرية ضده.
مضايقات وصلت إلى بيته وأسرته.
النتيجة أنّه اضطر إلى مغادرة النجف إلى كربلاء. هذه الحادثة تكشف أسلوب الإقصاء “الناعم” عبر الحصار الاجتماعي والفكري بدل القتل المباشر.
الفصل الثالث: نفي وتشويه أحمد الأحسائي
الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي (ت 1241هـ)، مؤسس المدرسة الشيخية، كان ضحية أخرى. آراؤه حول المعاد ومقامات الأئمة أثارت غضب الأصوليين.
اتهموه بالزندقة، وأصدروا بحقه فتاوى تكفيرية، حتى لم يعد آمنًا في النجف أو كربلاء.
اضطر إلى مغادرة العراق إلى إيران حيث تُوفي.
لقد تعرّض لاغتيال معنوي، إذ شوّهوا صورته وضيّقوا عليه، لدرجة أنه صار ملاحقًا حتى وفاته.
الفصل الرابع: المرجعية والشقاوات
لم يكن المراجع وحدهم في معاركهم الفكرية والسياسية، بل استعانوا بأذرع تنفيذية:
الحواشي: مهمتها نشر الشائعات، كتابة المنشورات ضد الخصوم، وتحريك العامة في الأسواق والمساجد.
الشقاوات (البلطجية): جماعات مسلحة تفرض نفوذها في الأحياء والأسواق، استقطبهم المراجع بالمال والغطاء الديني، وصُرفت عليهم أموال الخمس.
شواهد بارزة:
المرجع محسن الحكيم اعتمد على شبكات عشائرية وشقاوات في النجف وبغداد لترسيخ سلطته، واستخدم موارد الخمس لدعم نفوذه.
روح الله الخميني في النجف اعتمد أيضًا على مجموعات محلية مسلحة من الشقاوات لحمايته وإرهاب معارضيه، ثم حوّلها لاحقًا في إيران إلى “لجان ثورية” بعد 1979.
الفصل الخامس: بؤرة الصراع – الخمس
القضية الجوهرية التي غذّت هذا الصراع كانت أموال الخمس.
المراجع حوّلوها إلى مصدر سلطة مالية ضخمة تُشترى بها الولاءات وتُدعم بها الشبكات المسلحة.
لكنّ هذا التوظيف المالي يتعارض مع ما ورد في التوقيع الشريف عن الإمام المهدي (عج) إلى إسحاق بن يعقوب، إذ جاء فيه بوضوح:
> “وأما الخمس فقد أُبيح لشيعتنا وجُعلوا منه في حل إلى وقت ظهورنا؛ لتطيب ولادتهم.”
أي أن الخمس حُرّم على العلماء أن يستلموه، لكنّه صار وقودًا لصراعات دامية ووسيلة لقمع الخصوم.
الفصل السادس: صدمات وارتداد أبناء المراجع
لم تقتصر ردود الأفعال على الخصوم، بل امتدت إلى عوائل المراجع أنفسهم، حيث ارتد أو انشق بعض الأبناء والأحفاد بسبب الصدمات التي واجهوها:
موسى الموسوي (حفيد المرجع أبو الحسن الأصفهاني) انتقد المرجعية بشدة واعتبرها سلطة دنيوية.
أحمد القبانجي تحول إلى ناقد جريء للفكر الحوزوي.
حسين المؤيد تراجع عن مساره الحوزوي وأعلن مواقف فكرية معارضة.
محمد مهدي الجواهري (الشاعر الكبير) انقلب على البيئة الدينية التقليدية وعبّر عن صدمته في شعره.
عباس الخوئي و حسن الكشميري وغيرهم حملوا تجارب مريرة جعلتهم ينتقدون المؤسسة الدينية من الداخل.
أخطر هذه الأحداث كان عام 1936م حين ذُبح ابن المرجع أبو الحسن الأصفهاني أثناء الصلاة خلف والده، على يد أحد رجال الدين الغاضبين من الخلافات داخل الحوزة. حادثة شكّلت صدمة كبرى، وفضحت عمق العنف المستبطن في الصراعات المرجعية.
الفصل السابع: النقد الفكري لسلطة رجال الدين
لقد تنبّه عدد من المفكرين المسلمين لهذه الممارسات. ومن أبرزهم الدكتور علي شريعتي، الذي صاغ مفهوم “الاستحمار الديني” ليصف التقليد الأعمى والخضوع غير الواعي لسلطة رجال الدين. يقول:
> “إن الاستحمار الديني هو أن يُستغل الدين لتنويم الشعوب وإقناعهم بأنّ الطاعة العمياء لرجال الدين هي طاعة لله، بينما يُمارَس الاستبداد والقهر باسم العقيدة.”
إدراج مثل هذه الشهادات الفكرية يعزز ضرورة إعادة النظر في مفهوم القداسة المطلقة لرجال الدين، وفصل الدين الإلهي الإنساني عن الممارسات السلطوية لمؤسساته.
الخاتمة
إنّ استعراض هذه الحوادث – من اغتيال الميرزا الأخباري، إلى قمع يوسف البحراني، إلى نفي وتشويه أحمد الأحسائي، وصولًا إلى قمع المعارضين في زمن محسن الحكيم والخميني – يكشف أن الحوزة لم تكن ساحة علمية نقية، بل ساحة صراع على السلطة والمال.
إنّ الفتوى والتكفير، والتسقيط، والشقاوات، وأموال الخمس، كلها شكّلت أدوات متكاملة لبناء سلطة دينية قمعية.
وإذا كان أصل الدين رحمة وعدلًا وإنسانية، فإنّ هذه الممارسات مثّلت انحرافًا خطيرًا عن الرسالة الإلهية. وكل هذا الصراع والقتل والإرهاب كان من أجل الخمس، في حين أنّ الإمام المهدي (عج) حرّم على العلماء استلامه وقال:
> “وأما الخمس فقد أبيح لشيعتنا كي تطيب ولادتهم.”
وبهذا، يصبح لزامًا على الباحثين والمهتمين بالشأن الفكري والديني أن يُميزوا بين الدين كرسالة إلهية إنسانية، وبين رجال دين جعلوا الفتوى سيفًا والمال وسيلة قمع وهيمنة.
المراجع والمصادر
1. محمد حرز الدين، معارف الرجال في تراجم العلماء والأدباء.
2. جعفر كاشف الغطاء، الفتاوى والتقريرات.
3. يوسف البحراني، الحدائق الناضرة.
4. أحمد بن زين الدين الأحسائي، الرسائل والمكاتبات.
5. عباس علي شريعتي، الاستحمار الديني.
6. مذكرات موسى الموسوي، الشيعة والتصحيح.
7. كتابات أحمد القبانجي وحسين المؤيد.
8. مقالات ودواوين محمد مهدي الجواهري.
9. تقارير تاريخية عن حادثة ذبح ابن أبو الحسن الأصفهاني (1936م).
10. مصادر نقدية معاصرة حول علاقة المرجعية بالشقاوات والعشائر.

أحدث المقالات

أحدث المقالات