23 ديسمبر، 2024 12:16 ص

رثاءً لك يا “سلطان هاشم” مع مليون رحمة

رثاءً لك يا “سلطان هاشم” مع مليون رحمة

إحـتَرْتُ يا “أبا أحمد” من أينَ أبدأ وبماذا؟؟ فمُعظم من عملتَ تحت إمرتهم أو خدموا تحت إمرتك من ضباط جيش العراق الأبيّ وقواته المسلّحة يستشعرون بـ(علقم) قلّما ذاقوا مثيلَه لفراقك الجسدي عنهم في الحياة الدنيئة يوم الأحد (19/تموز/2020).
أُخاطِبك من هذه الدنيا الفانية وأنتَ في جنات علّيين وفردوس الخلود، متنعِّماً وسط الشهداء والصِدّيقِين -بإذن اللّه تعالى- بعد أن حَرَمَتْـنا أيادٍ أثيمة مُجرِمة من أن نستقي من عينَيك نظرات العزم والحزم عند الشدائد والمصاعب والمصائب.
تعارفنا للمرة الأولى
لم نتعارف عن قرب أو نتصادق، فأنت من “الموصل” وأنا من “كركوك”، حتى قُبِلتَ أنتَ تلميذاً في مصنع أبطال العراق لدى كلّيتنا العسكرية العريقة بدورتها الـ(43)، فإستقبلناكم -نحن تلاميذ الصف المتقدّم الدورة (41)- مرحّبين بكم ظهيرة يوم (1/1/1964)، ولم نَقضِ معكم سوى (6) أشهر قبل أن نتخرج ونودّعكم، ولم نعمل سوية في أيّ من وحدات الجيش المنتشرة في شماليّ الوطن وسواه بعد تخرّج دورتكم بواقع (347) ملازم ثانٍ يوم (6/6/ 1966).
إنقضت السنون وحلّ عام (1972) وكنتُ برتبة “نقيب” معلّماً بمدرسة المشاة في “الموصل”، وقتما إلتحقتَ أنتَ برتبة “ملازم أول” ضابطاً تلميذاً بدورة مدافع الهاون لـ(7) أسابيع متتالية، حيث عرفتك عن قُرب، وأدرجتُ البعض من صفاتك في تقريري الخاص المعتاد عند إنتهاء الدورة، لأني تَلَمَّستُك:- ]]]ضابطاً مجتهداً، ليس محترفاً لمهنته فحسب بل هاوياً للعسكرية، محبوباً، متفوّقاً، محترَماً، وَدوداً، حَسَنَ الهندام، سَلِسَ الكلام، مُجيدَ الإنصات، حاضِر البديهة، دَمِثَ الأخلاق، كريم النفس وعزيزها، هادئ الأعصاب، حازماً وحاسماً، فاضِلاً متواضِعاً، مُقدِّراً للمواقف، مُمسِكاً بشآبيب ديننا الحنيف من دون تطرّف[[[.

تدرّجه المثالي في الرتب والمناصب
كان “سلطان هاشم” برتبة “نقيب” حينَ توفّرت في شخصه شروط الخدمة الفعّالة والخبرة والمناصب المتسلسلة ودورات الترقية والتقارير السرية السنوية الجيدة، قبل أن يجتاز الإمتحانات الصعبة للقبول لدى كلية الأركان والقيادة، ليكون أحد الضباط التلاميذ في هذه المؤسسة العريقة بدورتها الـ(42) التي باشرت بالدوام في صفوفها يوم (6/أيلول/1975) لسنتين دراسيّتين، حتى تخرّج برتبة “رائد ركن” يوم (7/نيسان/1977) من بين (46) ضابط ركن.
وبعد أن إجتاز مرحلة الخدمة المُتبَّعة كضابط ركن بمقر لواء، فقد عُيِّنَ آمراً للفوج/3 للواء المشاة الجبلي/5 المعروف -منذ عقد الثلاثينيات- بخبراته الواسعة بالحروب الجبلية، وترفّع بإستحقاقه إلى رتبة “مقدم ركن” في (تموز/1979).
وفي الأسطر التالية لا بدّ أن أعترف بمحدودية ضبطي للعديد من تواريخ المحطات الرصينة التي مرّ بها “سلطان هاشم” لدى تدرجه بالمناصب القيادية… إلاّ أني أستذكر بعض الشيء بشكل تقريبي، راجياً من المتابع الكريم المعذرة في هذا الشأن.
فمعارك “كيلان غرب” كانت أولى المحطات التي لَـمَع فيها نجم “المقدم الركن سلطان هاشم” لجدارته في قيادة معركة دفاعية -شبه مثالية- أزاء هجوم إيراني شرس شُنَّ مع فجر يوم (6/ك2/ 1981) الذكرى/60 لتأسيس جيشنا، فأًنيطت إليه قيادة لواء مُبكّراً وهو بتلك الرتبة، ولم تنقض سوى سنتين (على ما أتذكر) حتى تبوّأ منصب قائد فرقة مشاة لعدة سنوات قبل أن يصدر مرسوم جمهوري لاحق في أوائل (1986) ليكون قائداً للفيلق السادس في أول تشكيله بالقرب من بلدة “قلعة علي صالح” مسؤولاً عن منطقة غريبة على خبراته المتراكمة منذ أواسط الستينيات، حيث كانت الجبهة المخصصة للفيلق ملأى بالأهوار والمستنقعات المتلاصقة والكثبان الرملية الخالية حتى من مجرد تلال أو هضاب بسيطة في محافظة “ميسان/العمارة”، والتي تختلف بواقع (180) درجة عن جغرافية المناطق الجبلية… ولكنه إستطاع بهمّته وغيرته وحرصه أن يُضَبِّط الأمور ويتعرّف عن كثب على قواطع مسؤولياته بإستطلاعات نهارية وزيارات ليلية لمواضع الأفواج الأمامية القصوى في غضون أسابيع من السَهَر والأرَق ومحدودية ساعات النوم والراحة.
وبُعَيدَ غزو الكويت (1990) تسنّم منصب معاون رئيس أركان الجيش لشؤون العمليات، وحصل ما حصل من دون الإطالة حتى إنتكس العراق أواخر شباط/1991، فأُوعِزَ إليه أن يرأس الوفد العسكري العراقي للقاء “الجنرال شوارتسكوف” في خيمة صفوان بعد الإنسحاب القسري للقوات العراقية من أرض تلك الدولة.
ظلّ “الفريق الركن سلطان هاشم” بهذا المنصب لغاية 1995 حتى أضحى رئيساً لأركان الجيش لأشهر عديدة قبل أن يتبوّأ منصبه الأعلى الممثّل بحقيبة وزير الدفاع الذي إستمر في شغله (8) سنوات متتالية، حتى إنهارت دولة العراق على يد الإحتلال الأمريكي-البريطاني يوم (9/نيسان/2003).
عَودٌ لأوائل الحرب مع إيران
كنت برتبة “مقدم ركن” في وزارة الدفاع وقتما إندلعت الحرب مع “إيران” في أيلول/1980، حتى نُقِلتُ بعد شهرين بمنصب “مقدم لواء المشاة الآلي/46”- الفرقة المدرعة/12 في قاطع “مندلي- سومار”، حيث كانت هناك فجوة واسعة فارغة وخطيرة أثارت نقاشاً وجدلاً، ولم تتوفّر وحدات عسكرية تُفرَز لتغطيتها، تلك الفجوة التي كانت تفصل جناحنا لوائنا الأيسر بحوالي (30) كلم عن الجناح الأيمن للواء المشاة الجبلي/5 المتمركز على جبال “كيلان غرب” الإيرانية، تلك الفجوة التي إذا ما توفّق الإيرانيون إختراقها بقوة مدرعة ذات عزم وإسناد جوي قريب، إذا خطّطوا لذلك وإقتدروا على تنفيذه، فإن المسافة التي تفصلهم عن “بغداد” لا تزيد على (130) كلم… أي أن الإفتراض النظري الأسوأ على خريطة مفروشة يشير أن إندفاعاً إيرانياً عَزوماً قد يجعل قواتهم على مقربة من الضواحي الشرقية لعاصمة العراق خلال نهار واحد!!!!
وشاءت الأقدار في أواخر عام (1980) أن يكلّفني السيد قائد الفرقة المدرعة/12 “العميد الركن جواد أسعد شيتنه” بإستطلاع المنطقة تفصيلياً والتنسيق الميداني مع اللواء/5 لحلّ هذه المعضلة العويصة.. ولما وصلتُ قاطع اللواء وجدتُ أمامي “المقدم الركن سلطان هاشم” بمعنويات عالية ووجه بشوش مُعتاد بعد وداع طال (8) سنوات، وكان بمنصب آمر الفوج/3 الماسك للجناح الأيمن للواء/5.
جلسنا سويّة بعض الوقت لنستذكر أيام دورة مدافع الهاون ومدرسة المشاة والمفارقات والمواقف التي صادفته، قبل أن يُهَوِّن ويُبَسِّط هذه المعضلة التي تُؤرِّق قيادات الفرقتين/12 والرابعة والفيلق الثاني على التوالي، ولربما حتى القيادة العامة للقوات المسلحة، فالعراق يمتلك من الكتائب والألوية والفرق المدرعة وطائرات القوة الجوية التي من المؤكد أن تفترس المتعرّضين إذا ما عزموا على مجرد عبور حدودنا فحسب وليس إستهداف عاصمة الرشيد… وبهذا المعنى رُفِعَ تقريرنا المشترك إلى قيادة الفيلق الثاني والفرقتين.
مواقف “سلطان هاشم” السُلطانية
رغم محدودية تطوّر علاقاتنا الشخصية كثيراً لإنشغالنا بظروف الحرب، إلاّ أن مواقفه الشخصية معي عن قرب أو عن بُعد ترسّخت في صميمي، ناهيك عن عشرات المواقف الإنسانية والفروسية و(السُلطانية) التي كنتُ أسمعها من هذا وذاك، جعلت منه أحد أساطير أصحاب الأخلاق الرفيعة التي كان يعتبرها أساس الدين ونهج الحياة والتعامل مع الأخرين.
سمعته مرة يردّد أن الله سبحانه لم يمتدح نبيّه الكريم (ص) في جماله وعلمه وقبيلته، بل قال -سبحانه- في كتابه المجيد:- ]]وأنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم[[… كما يقول الرسول العظيم (ص) في أحد أحاديثه الخالدة:- ((إنّما بُعِثتُ لأُتَمِّم مَكارم الأخلاق))
ولكنك ستعذرني في عدم تعداد مواقفك السُلطانية بهذا الرثاء كي لا أُطيل على القراء الكرام.
لكل ذلك، ولأسباب أخرى توضّحت بعدئذ بإنقضاء الأعوام وتبوّئك لمناصبَ عليا ومرموقة بتدرّج مثاليّ وبعرق جبينك بلا مِنّةٍ لأحد عليك، فقد أجَلّكَ الجميع أقرباء وأصدقاء وزملاء ومعارف، فإحترموك عن قناعة وأحاطوا بك وإرتاحوا لحسن إستقبالك لهم ببشاهتك المعهودة في مكاتبك، ليس من أجل مصلحة أو نفاق وتزلّف، بل تقرّباً إلى شخصك ومواصلةً لصداقتك، والإستماع لأحاديثك المليئة بالحِكَم والمَواعظ.
ولذلك أصرخ اليوم بأعلى صوتي وسط هذه الساعات المريرة على معظم العراقيين:-
]]]أفَلا شُلّتْ تلك الأيادي الأجنبية والعميلة الخبيثة وشبه الأجنبية المجرِمة التي غدرت بك وإعتقلتك وقدّمتك أمام تلك المحكمة الهزيلة والمُخزية التي أصدرت أحكامها الجائرة بحقّك وحقّ الآخرين، وحرمتنا منك طيلة (17) سنة في “سجن الحوت” سيء الصيت؟؟؟
أفَلا سَقَطَتْ تلك النفوس -وهي ساقطةٌ أصلاً وفصلاً وفعلاً وأساساً- وتُقْذَفَ بأصحابها بعد شنقهم في ساحات الحرية قبل حرقهم أمام الأنظار، ليلقوا مصيرهم المحتوم ويستقرّوا في أسافل جهنّم وبئس المهاد؟؟؟؟[[
آخر الكلام
وختاماً حانت لحظة الفراق، إذْ يحزّ في نفسيَ المتألّمة المتوجّعة أن أودّعك بهذه الأسطر الضئيلة، والتي لم تَشْفِ ولو بعضاً من غليلي، أو تُهَدِّىء جزءاً مما أعانيه، في حين تظلّ روحك الطيبة الحائمة في جنات نعيم نبراساً ينير حياة أولادك وأهلك فهم – سيكونون بلا إستثناء- نِعْمَ الخَلَف وفاءً وأدباً وتربية وأخلاقاً.
وفي هذه الساعة كذلك أُخاطبك أن ترقد -يا أخي الوفي رغيداً- في مثواك قرير العين، هانئاً بمليء جفونك ولا تكترث، فأنت وَمَنْ سَبَقَكَ من عظماء العراق وقاماته الأجلاّء وشرفائه التي إلتحقتَ لموكبهم هم السابقون، وأن آلافاً آخرين من ذات الطُرُز سيلتحقون بك، ما دام العراق قد إنقلبت في ربوعه الموازين، وبات الساقطون وشُذّاذ الآفاق وحثالات المجتمع وسَفَلَتُهِ وأولاد شوارعه أسياداً يعيثون في وطننا الحبيب فساداً وإفساداً ودماراً وخراباً وحرقاً.
فوداعاً يا أخي الحبيب ” سلطان هاشم “، ومن العليّ القدير والواحد الأحد، على روحك الطاهرة المعطاء، مليون مليون رحمة، فأنتَ أهلٌ لها.
وأخيراً لا يسعنا إلاّ أن نستذكر أن لن يصيبنا إلاّ ما كتب اللّه لنا، وإنا للّه وإنّا إليه راجعون، شئنا ذلك أم أبَينا، وحسبُنا الله ونعم الوكيل، فتلك مشيئة العليّ القدير في هذه الحياة الدنيئة، والتي لا تُرَدُّ.