الجميعُ بلا استثناء يتحدثون بمرارة عن ظاهرة الفساد الاداري والمالي مُعبرين عن استنكارهم لها ومطالبين محاربتها بكل قوة . فالمسؤولون جميعهم من فخامة ريئس الجمهورية الى أدنى مسؤول في السلطة التنفيذية ، والكتل والأحزاب السياسية المعتدلة والمنحرفة والمتخبطة ، والبرلمان برئيسه وبأعضائه المشاكسين والصامتين ، والقضاء الأعلى والأوسط والأصغر ، والمرجعيات الدينية بكلّ اتجاهاتها وتبعياتها وانتماآتها ، والاعلام المقروء والمرئي بقنواته الفضائية وصحفه وبرامجه التحريضية وغير التحريضية ، ومنظمات المجتمع المدني اليقظة والنائمة ، والجالسون على الكراسي الوظيفية الذين لاهمّ لهم سوى انتظار استلام رواتبهم ، والباحثون عن فرص العمل دون جدوى ، والمتسولون في الأزقة والشوارع بحثاً عن لقمة العيش ، والساكنون في القصور الفخمة والمتخمة بطونهم والمالكون أفخم السيارات الحديثة ، والساكنون في بيوت ليست كالبيوت تحت سقوفٍ متهرئة تعبث بها الرياح والأمطار ، والواقفون في الساحات منتظرين من يستأجرهم للعمل ولو يوما واحدا ، وحتى الغارقون بالملذات بعيداً عن هموم الوطن ….. كل هؤلاء حين تسألهم عن الفساد ستجدُ اجاباتهم متطابقة تماما بالرفض المطلق له وضرورة التصدي له وايقاف نموه المتزايد . ومن هنا تقودك أسئلة موشحة بالحَيْرة والاستغراب الى البحث والتقصي عن كنه الحقيقة ، وتجدُ نفسك أمام لغزٍ كبير يدفعكَ لفهمه من باب وضع النقاط على الحروف . فان كان الجميع يرفضون هذه الظاهرة ويصفونها بأبشع الأوصاف ، فمن همُ المفسدون اذن ؟ ولماذا هذا الضجيج الصاخب الذي أزعجَ وما يزالُ يزعجُ أسماعنا يوميا ؟ وهل أن الفاسدين والمفسدين هبطوا علينا من كوكب آخر ؟ ومن أجل الوصول الى الحقيقة علينا أن ننظر الى ما يحصلُ هنا وهناك بحيادية تامة ، وأن نضع الأشياء الصغيرة والكبيرة تحت المجهر لنفهمها ان كانت ضمن قواميس الفساد أمْ لا . فربّما ما يقوم به المسؤول الفلاني من عمليات شيطانية من أجل الاستحواذ على أكبر قدر من المال العام أمرٌ طبيعي لا يخضعُ لقوانين الفساد على الاطلاق من باب ( ازرع لتحصد ) . وربّما ما يقوم به الحزبُ الفلاني من استغلال نفوذه وسطوته والتحكم بالممتلكات العامة من قصور ومبانِ ، وما يقوم به من فرض اراداته على أعضائه المتسنمين مناصب عليا في الدولة لا يقعُ ضمن دائرة الاتهام بالفساد باعتبار ما يقوم به جزءا من زكاة الأحزاب المفروضة على البلد . وربّما ازدواجية القضاء في اصدار الأحكام أمرٌ منطقيٌ لا يمكن التشكيكُ به على كونهِ نوعٌ من أنواع الفساد طالما أن للقضاء الحريّة المطلقة في تبرئة فلان وتجريم علان . وربّما اسناذ بعض الوظائف المهمة لذوي القربي – حتى وان كانوا غير مؤهلين – من قبل المتنفذين المالكين مفاتيح السلطة شيءٌ لا ينحدرُ الى مستنقع الفساد من باب ( الأقربون أولى بالمعروف ) . وربّما تورّط النزاهة بالفساد ليس فسادا وانما تحصيلٌ حاصلٌ لابدّ منه و من باب ( من عاشر القوم أربعين يوما صارَ مثلهم ) . وربّما الصائمُ القائمُ الذي لا ينقطعُ عن دور العبادة وزيارات الأضرحة المقدسة ليس فاسدا ولا مُفسدا بطلبه الرشوة مقابل تسهيل الاجراءات الروتينة في مؤسسات ودوائر الدولة من باب تبادل المنافع وتبادل الهدايا الأخوية . وربّما عمليات التزوير في الانتخابات لا علاقة لها بمفهوم الفساد لكون هذه العمليات ضرورية جداً للحفاظ على بيضة البلد من الفساد . وربّما انجراف طوابير المدرسين والمعلمين على طريق الدروس الخصوصية هاملين دورهم الأساسي في المدارس الحكومية ظاهرةٌ حضارية تتلائم مع الأجواء الديمقراطية للبلد وفق معادلة ( الآكل والمأكول ) . وربّما انتقال الاخلاص بالعمل والعنابة الطبية المركزة من المستشفيات الحكومية العامة الى مستشفيات القطاع الخص دليلٌ على تجدّد الضمير الطبي والتخلص من الضمير القديم البالي الذي لا يشبعُ الكوادرَ الطبية ولا يحققُ طموحاتها غير المحدودة من باب ( العلاجُ والشفاءُ للأغنى ) . وربما … وربّما … وربّما … وربّما المجهرُ الذي كشف لنا بوضوح تام ما يحصلُ على أرض الواقع هنا وهناك يجعلنا في حَيْرةٍ من أمرنا ويدفعنا الى سؤال آخر بحاجة الى جواب مقنع : ان كان كل ذلك ليس فسادا ، فما هو مفهومُ الفساد اذن أيّها السادة ؟