يمكن النظر إلى النجاحات السياسية التي حققتها القوى الإسلامية في أكثر من بلد من بلدان الربيع العربي من زوايا متعددة تتوقف على الموقع الفكري و السياسي لأصحابها ، فالأسلاميون أنفسهم يعتبرونها تتويجا لعقود طويلة من الكفاح السياسي و التضحيات المتواصلة و الصبر على الضغوط المتنوعة التي سلطت عليهم من قبل حكومات ذات هويات مختلفة و ديكتاتورية عسكرية و بالتالي فنجاحاتهم ليست سوى نتيجة طبيعية لهذه المسيرة الطويلة التي تكللت بالظفر في آخر المطاف، و يذهب بعض الإسلاميين إلى خطوة أبعد من ذلك معتبرين ما يقع بداية لبزوغ نهضة إسلامية شاملة تؤذن بولوج المنطقة لعنصر جديد من القوة و الإزدهار و قيام دولة الخلافة مجددا التي ستنهي عقودا من الضعف و التراجع عاشته المنطقة و يحسم صراعها التاريخي مع الدولة العبرية بما يضع العالم العربي على مسار صنع الأحداث و رسم المعادلات الدولية بعد أن كان مجرد متلقي لها و ميدانا لتأثيرات الآخرين و ساحة لصراعاتهم .
و وفق هؤلاء نحن إمام دورة تاريخية جديدة يعيد فيها العالم الإسلامي ( و العرب في موقع القلب و القيادة منه ) تأكيد هويتهم الدينية و يجسدونها في واقعهم الإجتماعي و السياسي و ذلك بعد مرور ما يقارب القرن على سقوط الدولة العثمانية في مطلع القرن المنصرم.
و يعبر آخرون خارج دائرة الإسلام السياسي ممن يدمجون تطورات السياسة بنظرة إجتماعية معمقة عن قناعتهم بأن إنتصارات الإسلاميين الإنتخابية الأخيرة تؤكد بأن الدين لا زال عميق التأثير في مجتمعنا و أنه المكون الأول الذي يشكل شخصيتها و توجهاتها و أن الأنظمة العلمانية الديكتاتورية التي حاربت التيارات الدينية لم تفعل سوى أنها منحتها المزيد من القوة و التجذر و المصداقية و إضافت من فشلها الشيء الكثير إلى قائمة نجاحات تلك التيارات، و في الغرب تعزو هذه الطبقة من المحللين و الدارسين نجاحات الإسلاميين إلى ضيق الشعوب من الحكومات الديكتاتورية التي حكمتها و تبرمها من المأزق الإجتماعي و الإقتصادي الذي انتهت له تلك النظم ، فالأسلاميون وفقا لهؤلاء ليسوا في عيون تلك المجتمعات سوى خشبة إنقاذ من هذا المأزق و مما يعنيهم على إداء هذا الدور إستنادهم إلى إيديولوجية ذات جذور عميقة في تلك المجتمعات و سجل مشرق من التضحيات و المواقف القائمة على مقارعة النظم السلطوية و هذا الميراث لا تحوزه أي قوة علمانية آخرى .
المولعون بنظرية المؤامرة و ما أكثرهم في بلداننا و ممن يعتقدون بأن كل حدث من حوادث الدنيا ليس سوى ( صناعة غربية) ينكرون تأثير الحراك الإجتماعي و السياسي في مجتمعاتنا و يرون فيما يقع ( مؤامرة توريط) للحركات الإسلامية من خلال دفعها إلى مواقع السلطة و إثبات عجزها و فشلها عن إدارة دفة الحكم و تحقيق مصالح الناس و إدخالها في صراعات لها أول و ليس لها آخر مع القوى العلمانية و الليبرالية في مجتمعاتها ، و هؤلاء مقتنعون بأن الحركات الدينية ليست لها علاجات جاهزة لمشاكل مجتمعاتها ( خصوصا الإقتصادية منها ) و أن كل بضاعتها هو حفنة من الشعارات البراقة و كلام في العموميات لا يسمن ولا يغني من جوع و يستدل هؤلاء على تجربة بعض الأحزاب الإسلامية في الحكم و ما آلت إليه الأمور في بلدانها .
ليس من الواضح لحد الآن أن كانت الآحزاب الإسلامية مدركة لحقيقة أن الآحتفاظ بثقة الناس و تآييدهم عندما تكون صاحب القرار و في موقع الحكم أصعب مائة مرة من كسب تأييدهم و أصواتهم عندما تكون في موقع المعارض و المناكف لحكومات ديكتاتورية و فاشلة.
و أن الجماهير التي منحتهم اصواتها لم تفعل ذلك فقط لأنهم إسلاميون بل لأنها تتوقع منهم نموذجا مختلفا في الحكم و تتأمل منهم تغيير واقعها البائس.
أن مهام بناء الدولة و تحقيق الرخاء هي بالتأكيد أصعب و أكثر تعقيدا من متطلبات إدارة حركات جماهيرية و خوض نزال سياسي و إجتماعي مع نظم مهترئة و نماذج فاشلة، و إن مستلزمات إدارة الدولة تختلف جذرياعن متطلبات الدعوة و إثارة الجماهير.
أن تحدي بناء الإقتصاد و رفع مستوى معيشة المواطن سوف لن يكون بالمهمة السهلة على الإطلاق في العديد من الدول التي فاز بها الإسلاميون حيث تأمل قطاعات إجتماعية واسعة من المنتصرين أن يدخلوا تغييرا حقيقيا على حياتهم و أن يطعموهم من جوع و يأمنوهم من خوف .
أن المعطيات الإقتصادية الأساسية في مجتمع
كمصر مثلا معروفة مسبقا و لن يكون هناك مفاجئات أو تغييرات دراماتيكية متوقعة فهناك ثمانون مليون من السكان تتزايد اعدادهم بمعدل مليونين كل عام و هناك رقعة زراعية محدودة لا تتجاوز حوافي نهر النيل و هناك سياحة تساهم في الاقتصاد المحلي بحوالي أربعة إلى خمسة مليارات سنويا و دخل بحوالي نصف ذلك تأتي به قناة السويس مما يعني اقتصادا يواجه تحديات هائلة تتفاقم مع كل زيادة للسكان و قطاعات شبابية هائلة تبحث عن فرص للعمل كل عام و قس على مثل ذلك الأوضاع في المغرب و تونس و ربما اليمن التي فاز أو سيفوز بها الإسلاميون ، أننا لا نريد من ذلك أن نقول أن أفق التنمية مسدود في تلك البلدان و أنه لا جدوى من سياسات اقتصادية رشيدة و لكننا فقط ننبه إلى جسامة المهمة و تعقيدها ،فالثقة التي حازها هؤلاء ستطرح عليهم تحديات عظيمة و تستلزم منهم إداء راقيا و متميزا على صعيد النهوض بالإقتصاد و إدارة الدولة و بالتأكيد فأن كوادر هذه الأحزاب سيكونون بحاجة لطواقم من الخبراء الذين قد ينتمون لقوى إجتماعية و سياسية آخرى لتعينهم على هذه المهام الجسام .
أن حسابات الحقل هي ليست كحسابات البيدر و هذا ما يجب أن يدركه بعمق المنتصرون الجدد في الساحة العربية و أن النموذج التركي الذي ينظر له ابناء الحركات الإسلامية العربية بإعجاب قد لا يكون صالحا للإقتداء بالجملة في بلدانهم بسبب إختلاف الظروف الموضوعية و السياق التاريخي ، و على هذه الحركات أن تتذكر أن النجاح التركي لم يأت بسبب إنجازات اردوغان و حزبه في ميدان (أسلمة المجتمع ) بل جاء بشكل أساسي من النجاحات الإقتصادية و تضاعف الدخل التركي ثلاث أضعاف خلال فترة حكم حزب العدالة و التنمية ذات التوجهات الإسلامية و هو إنجاز باهر على صعيد الإقتصاد بكل تأكيد، و كما يقال عن الصين بأنها بلد رأسمالي تحت أعلام الحزب الشيوعي يصح القول عن تركيا أنها نظام علماني تحت لافتة حزب إسلامي.
هنالك موجة من الواقعية و البراجماتية السياسية تهب على الحركات الأسلامية و هنالك أكثر من تفسير لذلك فقد يكون ذلك ناتجا عن نضوج التجربة التاريخية لتلك الحركات و شعورها بأن طريق التشدد و التصادم لم يعد عليها بالنفع و أن الإعتدال و الخطاب الهادئ هو الذي ييسر لها مهمة بلوغ اهدافها، و قد يكون مجرد رسائل طمأنة لقوى الداخل و الخارج التي تتخوف من سيطرة الأسلاميين ، كما قد يعزو إلى التأثر بالتجربة التركية ، و أيا ما يكن السبب الحقيقي فأن الاختبار الفعلي سيكون من خلال متابعة سيرة هذه القوى داخل الحكم و ليس خارجه.
أن جهاد هذه القوى هو في إنتصارها على نفسها و ظفرها في تحدي بناء الدولة فيما نجاحها الإنتخابي الأكبر يكرس عهد الإنتصار في جهادها الأصغر، و هنالك العديد من الشروط التي ستحسم مستقبل هذه الحركات و مصير مشروعها الذي تحمله و أهم هذه الشروط من وجهة نظرنا بعد نجاحها بإدارة الدولة هو في قدرتها على إقامة تحالفات و حوارات بناءة مع القوى العلمانية و الليبرالية و كذلك التغلب على تناقضتها الداخلية فداخل الساحة الإسلامية نفسها هنالك الكثير من الخلافات و التناقضات بين توجهاتها المختلفة كالخلافات بين الأخوان المسلمين و السلفيين و أصحاب التوجهات الجهادية هذا إذا نحينا جانبا الخلافات التي تعود إلى التنوع المذهبي كما هو قائم بين التيارات السنية و الشيعية و غيرها كذلك يتطلب الأمر إرساء علاقات طيبة مع المراكز الدولية المؤثرة و تجنب الصدام العنيف معها و بالطبع هناك تحد كبير يتمثل في التغلب على إغراءات السلطة و عللها التي فتكت بالكثيرين و أودت بمصداقية مشروعهم الأيديولوجي.
إن المستقبل ليس ملكا لأحد و أن التنبؤ به هو أكثر المهن بؤسا لأن التنبؤات غالبا ما تكذب اصاحبها و لكن لا مناص لنا من إعمال الفكر حول المستقبل لأنه سلوك حضاري مطلوب و ممارسة عقلانية شائعة و لأنه يعطي المجتمعات و الأفراد القدرة على تجنب السيناريوهات الخطرة و غير المرغوب بها و التحسب لها مسبقا
* وزير التخطيط السابق
[email protected]