لم تَحِنْ الساعة بعد للعراقيين بأن يشربوا قهوتهم كتقليد مُتعارف عليه لتلك العادة العربية الأصيلة التي تكاد تكون مُتوارثة عند القبائل العربية وتتمثل بالإمتناع عن شُرب القهوة في المُضيف إلاَّ بعد الإستجابة لِطلب الضيوف، فمازالوا بإنتظار أن تُلبّى حاجاتهم أو حتى مُتطلبات حياتهم التي سُرِقتْ من الذين جاؤا أو حتى من رحلوا.
جاء اللاحقون إلى السُلطة وغادرها السابقين وأمام خشبة مسرح البرلمان تعهّد الحُكّام الجُدد بأنهم عَقِلوا وتَوكّلوا وإنهم عناوين الفرصة الأخيرة للنظام السياسي التي تسمح له بإغتنامها من خلال هؤلاء للخروج من قعر العتمة والظلام والسواد الذي ألبسوه للشعب.
وبين التفاؤل وغريمه التشاؤم كان الشعب العراقي يرمُق بنظراته إلى وجوههم فمنهم من إسّتبشر خيراً بقدوم الجُدد وآخر لم يُشعِره التغيير بذلك الشعور الفَرِح، فيما أخذ البعض اليقين واللامُبالاة أن لا مُتغيّر قد تغيّر في الحال من المُحال.
هي دورة حياة السُلطة التي تبدأ من حيث تنتهي حين يستلم الآخرون أماكن الأقدمين في مُتوالية (الدولاب) للمشهد السياسي الذي إعتاد عليه العراقيون بعد عام 2003 عند تغيير أي رئيس مجلس وزراء مع طاقمه الحكومي ليحل محلّهم فريق حكومي جديد وبإدارة مُستحدثة بعد إعلان الفائز من إفراغ صناديق الإنتخابات وبدأ مفاوضات عسيرة ومعارك ضارية لتقاسُم السُلطة والنفوذ بين الأخوة والأعداء.
يتكرر المشهد السياسي دائماً في عنوانه الذي يبدأ بمغازلة او دغدغة مشاعرالرعيّة بالوعود المُستقبلية التي تبدأ (بالسين وسوف) الى ان يُغادر الرئيس السُلطة دون ان تتحقق الكثير من تلك الوعود بل مزيداً من النهب والسلب ما تبقّى من خزينة البلد دون أن يُحاسبه أحد مع الاستسلام للأمر الواقع أو حتى التمنيات بالاستمتاع بما سرقه وفي ذلك يتشابه ولايختلف كثيراً عن سابقه ذلك الزمن السياسي الذي يُعيد إنتاج نفس السَرديّات المتكررة وقد يعود ذلك إلى فِطنة ودهاء الذي يتولّى رأس السُلطة التنفيذية في أن تكون من أولويات مهامه هو البدأ بجمع ملفات الفساد وقضايا التُهم التي تُدين الأصدقاء قبل الأعداء والإحتفاظ بها ليوم العُسرة التي يتحصّن بها في خزنته السريّة لِحين إنتهاء تكليفه للتأمين على ضمان عدم مُحاكمته أو إنتقام الشُركاء السياسيين منه كما يقول المثل المصري (سيب وانا أسيب)، ولذلك ليس من الغرابة أو العجب أن يرى الشعب جميع حُكّامه وهم يُغادرون مواقعهم الحكومية بهدوء دون أي مُسائلة أو عِقاب في مُتوالية الفساد الذي تنتقل رايته إلى الآخرين بعد أن يكتفي أو قد لايكتفي منه الأسبقون عند تدويرهم في المناصب ليبقى المواطن هو الخاسر الأكبر من دوّامة الفساد ومن تكرار صفحات المشهد السياسي من كتاب النظام السياسي في العراق.
لم يشرب العراقيون القهوة بعد، بإنتظار ماسيؤول إليه مُستقبلهم وواقعهم ولِحين الإستجابة لطلباتهم وتحقيق أمانيهم ليبقى ذلك الخيط الرفيع الذي يربط بين التفاؤل والتشاؤم ويستمر ذلك التذبذب لأنهم يُدركون جيداً إنَّ كِلا الطرفين فيهما مايُغري ويدعو إلى الإعتقاد به بعد أن يتباين النظر إلى نصف الكأس الفارغ أو المملوء ليكون اللون الرمادي هو الحل الأمثل لتقييم العراقيين لواقعهم الذي يربطون به أصابعهم لكي لاينسوا أنهم في زمن التشاؤل وبإنتظار ذلك الضوء الذي يتحدثون عنه في نهاية النفق وأيُّ نفقٍ مُظلم وطويل سقطوا فيه مع تمنّيات قد تبدو إليهم مُستحيلة في أن تقودهم خطواتهم إلى تلك النهايات السعيدة التي سيرفعون حينها فناجين القهوة للبدأ بِشُربها عندما يُستجاب لطلباتهم.