(قراءة في كتاب)
بيني وبين نفسي، هذا هو عنوان الكتاب الذي أصدره الصديق محمد السعدي، سابرا فيه تجربة إنتمائه الى صفوف الحزب الشيوعي ولعله أحسنَ إختيارا وخيرا فعل، لما لهذا الحزب من دور مؤثر ومشرف في توجهات ورسم مسارات الحركة الوطنية العراقية العامة ومنذ تأسيسه وحتى يومنا هذا، وعلى مدى ما يقارب التسعة عقود المنصرمة من عمره. وقد بانت آثار ذلك وعلى نحو جلي في مساهمته وبشكل كبير في تشكل الوعي الوطني وفي مسيرة النضال المشترك مع سائر القوى، الصديقة منها والقريبة منه كذلك في توجهاتها، وعلى طريق تحقيق مصالح الشعب العليا.
وعلى أثر ما تعرض له الحزب من هجمة شرسة على يد السلطة الغاشمة وأجهزتها القمعية ومع نهايات السبعينات المنصرمة، حيث رافقها إنفراط عقد الجبهة الوطنية بينه وبين القوى المنضوية معه من جهة، وبين الحزب الحاكم من جهة اخرى، فقد ارتأى وبحكم الظروف الشديدة القسوة التي مرَّ بها والتي فُرضت عليه، التوجه نحو إحداث تغيير جذري في سياساته، فكان له أن يختار أسلوب الكفاح المسلح كأحد أشكال النضال والخيارات الممكنة والمتاحة في التصدي للنظام الحاكم، وذلك بتشكيله لفصائل خاصة وتابعة له،سمّيت آنذاك بحركة اﻷنصار، مستعيدة مجدها التليد وما عُرِفَتْ به، ولتتخذ من شمال الوطن قاعدة ومنطلقا لها، ليلتحق في صفوفها صاحب الذكر والكتاب وحديث ساعتنا، كما إلتحق غيره من رفاق الحزب، وممن يحملون ذات الفكر وذات الوجهة.
أسوة ببضعة آخرين وبحكم إنتمائه الى صفوف الحزب وحركة اﻷنصار وما رافق تلك التجربة من أخطاء وقليل منهاخطايا، ومنها ما هو خارج عن السيطرة والتحكم. ويمكننا أن نعزي أسباب نكوصها الى عوامل عديدة، لعل في مقدمتها حداثة التجربة وطبيعة العمل وسيرورته المتعثرة وصعوباته، وما سيرافقه كذلك وبالضرورة من إجتهادات لم تكن محسوبة بدقة، ومن بينها ما القي وزرها وجرى تحميلها على اﻷشخاص المنتمين أنفسهم، تجلَّت تداعيتها وبانت فيما حدث وعلى قلتها من إختراقات طالت مختلف المستويات الحزبية. وعن الشق اﻷخير فسيورد الكاتب الكثير من الإستشهادات وباﻷسماء عمَّن وصفوا بالمتعاونين بل قل العملاء، حيث كانت تحركاتهم رهن إشارة أجهزة اﻷمن القمعية، مزودين بوثائق ومستمسكات رسمية، سهَّلت لهم حرية التنقل وكيفما يشاؤون، وموضوع كهذا لشائك حقا ويستدعي بل يلزم ذوي الِشأن والعلاقة المزيد من الصفحات والتأمل والتوقف فترة أطول عمّا حدث.
غير ان ما يعنينا هنا هو أن بعض الرفاق ومقاتلي حركة اﻷنصار وعلى رأي الكاتب قد تعرضوا هم أيضا الى ذات الحملة الشعواء ومن رفاق اﻷمس، والتي هدفت الى تشويه سمعتهم والنيل من تأريخهم الحزبي والنضالي بشكل عام، لذاسيتوقف وببضعة صفحات للتحدث عن هذه الظاهرة التي دفع أثمانها باهضة عدد ليس بالقليل من الرفاق والمقاتلين، وسيختار أن يكون طرفا رئيسيا في الخلاف الدائر، متبنيا فكرة الدفاع عنهم، لا سيما وانه هو اﻵخر قد طالته هذه الحملة ووصلته نارها، وهو حق مشروع ومفروغ منه. سعى ما أستطاع أن يكون منصفا، مستخدما لغة أرادها أن تكون محايدة، وذلك أثناء تقييمه لما جرى من أحداث والتي رافقت عمله السياسي واﻷنصاري، متوقفا طويلا على تجربة هذا الإنتماء وذلك على ضوء ما مرَّ به من منعطفات، لم تخلو أكثر محطاتها من مخاطر وعذابات جسيمة بل وكارثية.
أثناء تصفح الكتاب، سيجد القارئ أيضا ما يشير الى براءته مما أسماها تهم وإدعاءات وأباطيل وما ترتب عليها من إنعكاسات وآثار سلبية، كانت قد لحقت به ولا زال يأن منها وجراحها لم تندمل بعد. من بينها (أي التهم) وعلى ما رآه قد جاء مرتجلا وعلى عجل، ومن بينها أيضا ما لم يجرِ التعامل معها كظاهرة مقلقة ولها إنعكاسات ودلالات مصيرية بل وأخلاقية، ستمس بالضرورة كل مَنْ طالتهم هذه الدعاوي. كان ينبغي على ما يقول التعامل معها بروية وأناة وبروح من المسؤولية العالية، علماً أن موضوعا كهذا لم يكن ليشكل حالة خاصة أو نادرة وبالتالي يسهل القفز عليها وعبورها أو تداركها بخفة، بل هي ظاهرة خطرة جدا، لا سيما وانها قد إمتدت لتشمل أعداداً ليست بالقليلة من الرفاق، كانت قد طالتهم ذات التهم.
وكي لا يختلط اﻷمر على المتلقي وقارئ هذه السطور ويذهب في تفسيره كيفما وأينما يشاء، يتداخل فيها الحابل بالنابل، فنحن هنا نقصد ونعني وبالتحديد عن الحالات التي أثبتت اﻷحداث والوقائع وباﻷدلة والبراهين القاطعة صحتها، وحملت معها براءة كل مَنْ ألصقت بهم التهم وطالتهم حملات التشويه والقرارات الجائرة، وبأن الحيف قد وقع عليها وأصابها بمقتل. وما دام الحال كذلك ووصلنا الى هذه الخلاصة وإذا ما حسنت النوايا، فلابد من إعادة النظر في المواقف والإجراءات التي أتخذت بحق هؤلاء ولنسميهم بالضحايا أن جاز لنا الوصف، ورد الإعتبار لهم وعلى رؤوس اﻷشهاد وحتى يثبت العكس.
وعن ذات الموضوع فالقصة لم تتوقف عند هذا الحد وان تداعياتها أبعد من ذلك بكثير، وإذا ما أحسنا قراءة المشهد وعلى نحو من المسؤولية العالية، فسنصل الى نتيجة مفادها، بأن أمراً كهذا لهو على صلة مباشرة بحياة شعب ومصير وطن، وكان للحسابات الخاطئة بل لنقل المجحفة في بعض الحالات وخاصة تلك التي بولغ فيها وأعطيت من الوصف ما لا ينطبق عليها، أَنْ وجدت لها آثارا وإنعكاسات ونتائج سلبية، بانت تأثيراتها وتجلياتها على المستويين الحزبي واﻷنصاري وعلى طريقة أدائهم وعلى درجة ومستوىحماساتهم.
نعود ثانية لنقول أن ما توصل اليه من نتائج وخلاصات ودروس وعِبَرْ من تجربته اﻵنفة الذكر، ربما لم ترق للبعض، أو ربما وعلى ما يعتقدون بأنه لم يكن أمينا في نقله للأحداث ومجرياتها وما كان قد تولد وترتب عليها من تفاصيل ونتائج. وهناك أيضا من إعتبر ما ورد في الكتاب مجافيا للحقيقة، وبشكل خاص من قبل أولئك المختلفين والمتقاطعين معه سياسيا وﻷسباب عديدة، لسنا بصدد التطرق اليها في هذه المناسبة، وأيضا هناك مَنْ قرأ المشهد على نحو مغاير. وإذا كان لنا من قول عما ورد في الكتاب، فلصاحبه وإذا ما نظرنا بعين الناقد والمطلع وبتواضع نقولها، وعلى ضوء ما مرَّ به من تجارب، فله ما له وعليه ما عليه، أسوة بأخوة آخرين من حملة السلاح المقاوم ومن رفاق درب، كان قد سبق لهم أن مرّوا بذات التجربة وساروا على ذات الخطى وأصابهم أيضا من العثرات والكبوات نصيبا. بل علينا أن لا نستكثر عليهم ولهم في ذلك كل الحق في حملهم من اﻵراء والتصورات ما تتقاطع أو تتفق أو تلتقي في نقاط معينة مع رؤى هذا الكاتب أو ذاك أو هذا السياسي أو ذاك، وهذا على ما أظن من بداهة اﻷمور.
وفي الحديث عن تلك المحطات وما واجهه من صعوبات وطرق لم تكن سالكة بسهولة، فَسَيقوم وفي صفحات أخرى بالكشف عنها وعلى قدر تعلق اﻷمر به وما كان قد واجهه خلال فترة عمله الحزبي واﻷنصاري على حدٍ سواء. وعن تلك السطور التي خطها، لم تكن على ما أظن خالية من الصراحة والوضوح، مواجها نفسه أولا، منسجما وصادقا معها ومع المحيطين به من رفاق البيت الواحد والفكر الواحد والثكنة الواحدة. منطلقاً من حجم اﻷمانة وهولها ومن شرف حملها وما أودع بين يديه وضميره، فالقصة قصة مصير شعب ينتظر لحظة الخلاص ولحظة الحرية.
وإذا كان لنا من تناص فلا بأس من الإستعارة والإستعانة بما كتبه الدكتور عبدالحسين شعبان في مقدمته للكتاب وبالتالي تقييمه له، وبعبارات دقيقة مسؤولة وسعة أفق وحسابات بعيدة. منطلقا وعلى ما أعتقد من خبرته السياسية ورصيده المعرفي، واضعا في حسابه ماصادف صاحب الكتاب من مشاكل وأهوال، أسوة بإخوته ورفاقه، مستخلصا الى ما يفيد بثقل المهمة التي أوكلت اليه وبرهطه، وبحجم لا قدرة لهم على حمله إن لم تتظافر وتتحد معها عوامل أخرى داعمة له. أمّا عن تداعيات ما جرى فلا يمكننا إغفال أو الصفح عمَّنْ هو أكبر مقاما وأعلى منزلة. إذن ونحن في هذا المقام وفي الحديث عنه، فلا مناص ولا مفر من أن تتقاسم كل اﻷطراف والمستويات ذات الصلة وزر الواقعة وما لحق بها وما ترتب عليها، بدأًا ًمن الرأس وَمَنْ بيده زمام الحل والعقد، نزولا حتى صغار القوم، ولا إستثناء أو محاباة في أمرٍ كهذا، وليأخذ كل ذي حق حقه.
وبالعودة الى الكتاب وقبل الدخول في متنه فلا بأس من الإتيان والإستشهاد بما ورد في المقدمة منه وعلى لسان الدكتور عبدالحسين شعبان. فمثلا على الصفحة رقم 11 جاء وبالنص: يروي محمد السعدي كيف وقع في فخّ الإستخبارات العسكرية في العام 1987 بخديعة أو تواطؤ أو قصر نظر على أقل تقدير. (إنتهى الإقتباس). وتعليقا على ما ورد فإن إستنتاجا كهذا، سيجد له صدى بل تبنياً صريحا من لدن (وثيقة التقييم الصادرة عن حركة اﻷنصار التابعة للحزب الشيوعي العراقي في الفترة ما بين 1979 ـ 1988)والتي أقرت من قبل مؤتمر الحزب، المنعقد في سنة 1997، حيث جاء في بعض فقراتها والذي يعكس ما يمكن إعتباره تقصيرا واضحا من الحزب في كيفية التعاطي مع فكرة حركة اﻷنصار: لقد توجهت المجموعات اﻷنصارية اﻷولى الى الجبال وهي تفتقر الى المال والسلاح والمؤن، وتعاني من الإرتباك وضعف الثقة بقيادة الحزب. ثم تواصل الوثيقة تقييمها لما جرى وبوضوح تام وضرس قاطع، حتى تُشعركَ بأنها أهلا لتحمل وزر ما حدث وبمسؤلية عالية وبروح منفتحة وينبغي أن تسجل لها على ما أرى: إضطرت المفارز اﻷولى هذه الى الدخول في معارك غير متكافئة وغير محسوبة مع العدو، مما سبب وقوع ضحايا غالية، وكانت ملحمة(قزلر) أولى هذه المعارك البطولية.
إعترافاً كالذي فات ذكره وبوثيقة رسمية، والتي صدرت وجرى تبنيها من قبل مندوبي المؤتمر السادس للحزب الشيوعي العراقي، لا بد إذن والحال كذلك من أن يَقْدم الحزب على إتخاذ جملة من الإجراءات الضرورية والتي تنسجم مع هذا الموقف وبهذا الوضوح والصراحة الذي جاءت به، فإنطلاقا منها واﻷحرى بها أن تقوم بإعادة النظر بما جرى وما أتخذ من إجراءات بحق مجموعة من الرفاق والمقاتلين، بعضها لم يكن منصفا، لتعطي في نهاية المطاف لكل ذي حق حقه، وأيضا تحاسب مَن يستحق وبصرف النظر عن موقعه وحجم مسؤوليته. وعلى الجانب اﻵخر وعلى ما أرى فينبغي أن لا تكون هذه الوثيقة شفيعا أو بديلاً أو إعفاءاً أو تغافلا أو تهربا عن تحمُّل المسؤولية الشخصية، والتي كانت قد أنيطت وأودعت برقبة رفاق الحزب ومقاتلي حركة اﻷنصار، فمن المفترض أن يكونوا أهلاً للثقة وأهلا لتحملها، وبما يتناسب وحجم المهام التي أوكلت لهم وطبيعة اللحظة التأريخية التي مرَّت بها البلاد.
وبالعودة ثانية للكتاب(بيني وبين نفسي) وما يلفت النظر فيه، فمن خلال قراءتنا له وفي الحديث عن الشق السياسي منه وعن حركة اﻷنصار والتي ركَّز جُلَّ إهتمامه عليهما، فيلاحظ أن هناك حركة دائرية في سيرورته. بمعنى تجده متنقلا بين التواريخ واﻷحداث وبشكل لم يراع فيه التسلسل المنطقي والمترابط زمنيا، فمثلا وفي الحديث عن الحقبة الواقعة بين عامي 1980 و1988، وهي الفترة التي خصَّها الكاتب وركَّز عليها جل إهتمامه، تجده وقد تنقل وعلى غير هدى بين فترة وأخرى وليعود من جديد الى ذات الفترة التي إنطلق منها، ثم يذهب ويحدثنا ومن غير ان نجد ما يبررها وعن وقائع كان الكاتب قد تركها خلفه وهكذا.
أسلوب كالذي سار عليه الكاتب وعلى ما أعتقد وفي ضوء الموضوع الذي طرحه وتبناه في كتابه، كان ينبغي وعلى ما أرى أن يمضي بتسلسل زمني، واقفا على ما رافقته من أحداث، ففي هذا وعلى ما أعتقد ما سيسهم ويؤدي دورا مهما في شد وجذب المتلقي الى جانب كتابه، وبالتالي سينجح في ايصال ما لديه من رسائل وأفكار، براحة وروية. وهنا لا ينبغي أن يفهم اﻷمر وكأنه سيعفي القارئ من مهمة الإستجابة وبذل مجهود ما لملاحقة الكاتب وانما القصد منه بأن لكل نص شروطا ولغة وأسلوبا خاص به، وأيضا في التحرر من بعض القيود، هادفا الى إيصال ما يضمه من رسائل وأفكار وغايات.