لم أكن أعرف أن السفير “د. قيس العزاوي” ممثل العراق في الجامعة العربية قد درس علم النفس في جامعة عين شمس، وحين طالعت كتابه الجديد “رايش والتحليل النفسي” عرفت من أين يستمد “العزاوي” هذا الولع العظيم بالمعرفة والثقافة، هو الذي ينظم في بيته القاهري صالونا ثقافيا يستضيف فيه كل شهر عددا من المثقفين المرموقين كتابا وأدباء وساسة وسفراء، ليناقشوا موضوعات الساعة بصورة موضوعية عميقة تصب غالبا في التوجه العروبي التحرري الغلاب لصاحب الصالون، الذى انتهج تقليدا نادرا من السفراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية.
وفى صالون “العزاوي” عرفت الوجه الآخر لسفير لبنان د. خالد زيادة كباحث ومفكر.
اختار “د. قيس” ومعاونوه أيضا مجموعة من الكتب التي صدرت حديثا وقاموا بإرسالها للمشاركين في الصالون لمناقشتها، وكان آخرها كتابان “لقيس” نفسه.. الطبعة الجديدة من كتابه عن “رايش”، والطبقة الخامسة من كتابه عن “الدولة العثمانية قراءة من عوامل الانحطاط”، قدم للكتاب الأول د. حسين عبدالقادر رئيس الجمعية المصرية للتحليل النفسي، وقدم للكتاب الثاني الدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ الذى كان قد قرر تدريس الكتاب في الجامعة حين صدور طبعته الأولى، وكانت المناسبة هي انتهاء فترة وجود “العزاوي” في القاهرة للأسف الشديد ومع ذلك فقد وعد باستمرار الصالون.
عاش “قيس العزاوي” زمنا طويلا في فرنسا وكتب رسالته للدكتوراه هناك بالفرنسية عن الانقلابات العسكرية في الفترة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، ولم تترجم هذه الرسالة بعد إلى العربية!
ويلفت النظر في الطبعة الجديدة من كتابه عن “رايش” هذا الثراء المعرفي المدهش والرؤية المتفتحة لقضية التحليل النفسي، الذى جرى تهميشه في الثقافة والحياة العربية استمرارا للشكوك التي أحاطت بالطب النفسي عامة، والذى ينظر له العامة بقلق معتبرين أن المرضى النفسيين هم مجانين أو يقفون على حافة الجنون، وحين يضطر مواطن للجوء إلى الطبيب النفسي فإنه غالبا ما يتجه لإخفاء ذلك.
وكما يقول الدكتور “حسين عبدالقادر” في مقدمته الضافية للكتاب “المرض النفسي إنما هو إحباط لا يقوى الراشد على مواجهته بحل واقعي فيحس الأنا بالخطر، ليرفع راية القلق، ومن ثم يكون النكوص”.
ويفتح “عبدالقادر” في مقدمته باباً للأمل حيث “قيمة الحب – العمل الذي يرى التحليل النفسي أنهما شرطا الصحة النفسية”.
وعن الفوضى وسوء التخطيط في حركة الترجمة العربية يقول “العزاوي” لا تحتوى المكتبة العربية إلا على قلة قليلة مما كتبه “رايش” أو مما كتب عنه، ولا عجب أن نجد “كولن ويلسون” يدخل بيوت المثقفين، وأنصاف المثقفين العرب وهو لا يمت للأكاديمية بصلة.. بينما غابت الاتجاهات العلمية الفلسفية والثقافية الغربية.
وكان نصيب “رايش” من حركة التعريب ضئيلا مع أنه ألف 120 كتابا ووقف بشموخ مع عظماء عصره لينين، فرويد، أينشتاين، يونج، وستالين هو الذي برع في شتى الميادين النفسية والبيولوجية والفيزيائية والسياسية وعلم الجنس، تتلمذ على “فرويد” واختلف معه وانفصل عنه بسبب رؤيته هو الأشمل للمرض النفسي في سياقه الاجتماعي الاقتصادي، وكعالم وباحث ومفكر تطلع لإسهام علم النفس في بناء مجتمع “تختفي فيه مخلفات القهر من أحقاد وأمراض، فالمرض النفسي ليس استعداداً فرديا للاختلال في مواجهة البيئة المحيطة فحسب، بل إنه وقبل كل شيء يحدث بسبب هذه البيئة ونتائجها، لذلك يجب ألا يقع العلاج على الفرد، بل على المجتمع ككل، ولتعميم هذه الأفكار لم يكتف رايش بالتنظير، بل ذهب إلى الممارسة الجماهيرية فى ضواحى فيينا وبرلين، وفى أجواء مشحونة سياسيا واجتماعيا، وكان بذلك الناقد الأكثر جذرية للمجتمع القمعي وضع “رايش” أساس المدرسة “الفرويدية – الماركسية” وهي المدرسة السائدة حاليا في التحليل النفسي، وهى المدرسة التي رأت وحللت الجانب الاجتماعي في القمع الجنسي، والأسباب الاقتصادية للبؤس الجنسي حيث أساس القمع الجنسي هو الاضطهاد الطبقي، واعتبرت القلق نتيجة للكبت من جهة وكسبب للكبت من جهة أخرى.
نقل “رايش” محاضراته من الجامعات والمحافل الأكاديمية إلى أبواب المصانع وفي العيادات النفسية المجانية التي افتتحها في الضواحي العمالية، وافتتح مع زملائه في المؤسسة الاشتراكية للمعلومات والأبحاث الجنسية عيادات للصحة الجنسية، وبات نضالهم ضد القمع الجنسي موازيا لنضالهم ضد القمع الطبقي في المرحلة التي انضم فيها رايش للحزب الشيوعي.
كانت هذه هي المرحلة الأساسية في الحياة العلمية والعملية لرايش كواحد من أكبر علماء عصرنا تعرض بعد ذلك للملاحقة والاضطهاد من قبل الأحزاب الشيوعية التي أخذت تتجه إلى المواقف المحافظة، ومن قبل الحكومات وتنقل مطرودا بين بلدان أوروبا وأمريكا، وفى المرحلة الأخيرة من حياته اتجه إلى الروحانيات وهاجمه المرض ومات سجينا.
تحية للدكتور قيس العزاوي الذي وعد بأن يأتي إلى القاهرة في موعد الصالون الثقافي كل شهر.