في السنة السادسة من عمري شاهدته و كأن صورته حية امامي الان يجلس في سيارته مبتسما لنا نحن الاطفال الذين احطنا بسيارته (سيارة الدولة) ملوحا بيده لنا، ليس له حماية الا الله، السائق وحده معه يجوب شوارع بغداد متفقدا اياها ليل نهار، لا دراجات امامه و لا بعده، لا مخابرات او استخبارات تؤمن له الطريق فقد امن له الله و الشعب طريقه. كنت مولعا و لم ازل بالقراءة و بقراءة التاريخ على وجه الخصوص فقرأت الكثير عنه و سهرت الليالي الطوال بتدقيق سيرته فمنهم من هاجمه و منهم من انصفه و حتى اعداءه اتفقوا على نزاهته و براءته و عفته و طهره و وطنيته و خوفه من الله. التقيت قبل شهر بسائقه الحاج سلمان الذي كان متواضعا سلسا كسيده راهب الجمهورية فروى لي الحادث التالي.
قام سيده بتوزيع الدور على الضباط في زيونة و هو فرح بذلك، لكن مجموعة من الضباط الاحرار الذين شاركوه في الثورة قرروا ان يحجزوا واحدا من هذه الدور و عند نهاية الاحتفال بتوزيعها اخبره رفاقه بانهم حجزوا واحدا منها له لانه رئيس دولة و يجب ان تكون له دارا تليق به، فسكت و لم يجب. و تمر الايام و الشهور كالسحاب و في بداية الستينيات من القرن الماضي اقام (الاتحاد السوفييتي معرضا لعدده العسكرية) على ارض (معسكر الوشاش) (حدائق الزوراء حاليا) و حضره رئيس الوزراء و الوزراء و السفير السوفييتي و جمع غفير من السفراء و مسؤولو الدولة. و بدون سابق انذار و بدون موعد شق الصفوف عقيد مندفعا باتجاه رئيس الوزراء، حاول الضباط منعه لكن رئيس الوزراء منعهم قائلا له ما الذي تريده يا ولدي؟ فأجاب العقيد سيدي لقد وزعت الدور و لم احصل على واحد منها لي و لاطفالي، فكانت اجابة الزعيم بسيطة سلسة مثله حيث التفت الى اخوانه الضباط الاحرار قائلا الم تحجزوا لي دارا؟ قالوا نعم قال اعطوها لهذا العقيد الشاب. هل عرفتم من هذا؟ انه الزعيم عبد الكريم قاسم رحمه الله الذي افترش الارض في نومه واكل من (صفرطاس) شقيقته الذي كان يصله الى وزارة الدفاع و لم يرق نفسه كما فعل غيره و بقي في الحكم اربع سنوات و سبعة اشهر كي يحصل على رتبة لواء و التي لم يرتديها حيث شاركت الولايات المتحدة الامريكية و بعض دول الجوار و بعض التجار الخبثاء بقتله و قبل مقتله اتصل به السفير السوفييتي في بغداد قائلا (سنفشل الانقلاب اذا وافقتم) فأجاب عبد الكريم قاسم رحمه الله (انا لا ابدل الاستعمار الانكليزي بالاستعمار الروسي) فكم من رئيس دولة ذل نفسه و شعبه و قبّل الارجل قبل الايادي كي يبقى في كرسيه بيد الاعادي، مسكينة انت يا بلادي يا من بقهرك و ضيمك مزقتي لي فؤادي.