افقدني حبي لوطني كل طاقتي فلم اعد اقوى على المسير حتى ان مركبات الاجرة (التكسي) اصبحت وسيلتي الوحيدة للتنقل في ضواحي بغداد الرشيد و العروبة و الاسلام. و ما اصغر الدنيا و يا لوضاعتها! بادلني سائق (التكسي) الحديث و قد بدا وجهه مألوفا لدي رغم انني لم اره من قبل. كان سمحا لينا كريما و مؤدبا، كشف الستار عن مسرح حياته فهو في الخمسينيات من عمره و يدعى (سعد مهدي كاظم) فجاء على لسانه العذب ما يأتي:
العيواضية و قرب جامع عادلة خاتون و في ستينيات القرن الماضي كنت اذهب مع والدي لمساعدته في عمله، ليس لوالدي محل بل (بسطية) تتألف من (درّايين) (خشبتين عريضتين) و اربع (تنكات) زيت فارغة اُعيد ملؤها بالتراب، وُضع (الدرابان) على شكل نصف مربع و تحت كل واحد منهما (تنكتان) فاصبح (الدرابان) كالكراسي الوثيرة لزبائننا الكرام. و امام كل (دراب) (تنكتان) فارغتان تستعملان بديلا للمناضد الخشبية. يقف والدي امام (المنقلة) لشواء (الكباب و التكة و المعلاك) و في الزاوية الاخرى يضع (الحِب) و (الطاسة) لسقي الزبائن.
تعودت على الوجوه البغدادية السمحة و تعودت على اللهجة البغدادية العذبة و صار بعض الزبائن يداعبني و كنت فرحا بذلك و ان كلماتهم لا تزال ترن في اذني و كأنها قيلت قبل لحظات، (عمو ميّ، عمو صمونة، عمو طرشي، عمو خضروات).
و في احد الايام و بعد ان لبست الشمس ثوبها الثالث و مالت الى المغيب، وقفت مركبة صغيرة قرب جامع عادلة خاتون و ترجل منها رجل وسيم و باللباس العسكري ومعه سائقه فقط سلّمَ الرجل على الجميع و صافح والدي و جلس بتواضع على (الدرّاب) حيث بدى انه من زبائن والدي، تطلعت الى وجه الرجل فاذا بي اعرفه وجها مبتسما و انسانا متواضعا ملؤه الدفء و الحنان، انه ابن الفقراء و زعيم الفقراء عبدالكريم قاسم الذي لم يدخر فلسا و لم يفتح له رصيدا في بنك و لم تكن له شركات و وكالات، كانت شركاته و راس ماله هي الشعب و فقراء الشعب، ارى الصورة امامي و كانها انطبعت في كياني كله فلم تمحها السنين، اوصى الزعيم على نفرين (تكة) واحدا له و الاخر لسائقه و ما ان بدء بتناول طعامه حتى انتبه اليّ ثم خاطب والدي قائلا (حجي مهدي هل هذا ولدك؟) نعم سيادة الزعيم، اجاب والدي. ثم ناداني الزعيم و اجلسني الى جواره ثم اخرج (ربع دينار) من جيبه ليضعه في يدي و كأن يده تلامس يدي الان. ثم خاطب والدي ثانية(حجي، ابنك هذا مكانه الان البيت لينام و يرتاح حتى يروح للمدرسة باجر) عشقت هذا الرجل و احببته، احببت ملابسه (الخاكية) العسكرية، احببت ابتسامته و تواضعه و كياسته و شجاعته و امانته و وفاءه لشعبه، عشقت نزاهته و تواضعه فقد كان بامكانه ان يوصي على اطيب الاكلات لتُجلب لمقره في وزارة الدفاع حيث ينام على الارض، كان بامكانه ان يدخل ارقى المطاعم و افضلها لكنه فضل الجلوس مع الفقراء و الاكل من طماعهم و الاستماع لاحاديثهم اذ ثار من اجل الفقراء و ضحى من اجلهم و يوم جاؤه مطالبين بالسلاح لافشال الانقلاب ردّهم بادب و طلب منهم العودة الى دورهم حقنا للدماء و حفاظا على وحدة الشعب و الوطن و كذلك فعل مع سفير الاتحاد السوفييتي الذي طلب منه الاذن لافشال الانقلاب!! فما احوجنا اليوم الى شجاعة هذا الرجل و نبله و ادبه و تواضعه و سماحته و زهده و ورعه و نزاهته و عفته و صبره و ايثاره فهل يُنسى رجل كهذا؟ رحم الله زعيم الفقراء و زعيم الشرفاء رحم الله راهب الجمهورية عبد الكريم قاسم.
[email protected]