18 ديسمبر، 2024 7:46 م

“رام” التجريب في السينما العمانيّة!

“رام” التجريب في السينما العمانيّة!

إذا كان د.عبدالله الغذّامي يقول” كلّما عظم المعنى أمعن في التخفّي”من حيث أن المعاني” تحتاج لقنّاص ماهر”، فإن المخرج سعيد عامر في فيلمه الروائي القصير”رام” كان ماهرا في إخفاء المعاني التي انطوى عليها فيلمه التجريبيّ، لكنّ معانيه تتخفّى خلف رموز مدروسة بعناية بدءا من تعويذة (جالن كون جالن بيس) ذات الكلمات غير المفهومة، كسائر الرقى، والطلاسم، وتتكرّر، حتى لتبدو لازمة، منذ بداية الفيلم إلى نهايته، وهي “جملة يردّدها السحرة لاسترجاع أرواح الذين ماتوا”، كما جاء في الجملة المكتوبة بحروف بيض على لوحة سوداء، وظهرت في اللقطة الأولى من الفيلم، وتنتهي بسؤال مركزي مغلق هو ” لكن ماذا عن استعادة  الكرامة التي ماتت؟” لتبدأ أحداث الفيلم الذي مدّته 19 دقيقة، وقصة، وسيناريو، وإخراج: سعيد عامر، وأداء: نادية عقيل، حيان اللمكي، داوود السيابي، محمد البرام، محمد البلوشي، مروان الوهيبي، حمد الخروصي، وترسم اللقطات الأولى، وهي لقطات قريبة لأقدام تتحرّك بخطى ثابتة على أرض صخريّة، وعرة، نعرف بعد لحظات حين ينفتح المشهد، أنّها خطوات امرأة، وعسكري يسيران على أرض صخريّة وعرة، ونرى طاولة مثبّتة على ساحل بحر، وفوقها أوراق، ومحبرة، يجلس الضابط، على الكرسي مراقبا امرأة تغرف من البحر لتسقي الصخور الحادّة الزوايا، التي تبدو حافّاتها كأنّها أفواه عطشى تمدّ أعناقها للأعلى، وتكرّر العمليّة دون جدوى، فالأفواه العطشى لايرويها دلو ماء مالح، والمرأة التي، ضمن غرائبيّة المشهد، أقرب ما تكون للجنون، فتسكنها روح سيزيف، وهو يحمل صخرة الألم، والعذاب البشري، فيما ينهمك العسكري(أدّى دوره حيّان اللمكي) الذي يضع على كتفه رتبة مصبوغة بلون الدم بكتابة رسالة لمعلّمه الروحي يسرّب من خلال جمل قصيرة قلقه، وحيرته، فتظلّ المرأة تسقي الصخور، وتردّد التعويذة لتستردّ روحا غادرت عالمنا إلى العالم الآخر، وسرعان ماتتطاير الكلمات في الهواء، حين ينفتح المشهد على مشهد جنازة “رام”، فيتملّك الضابط القلق، والفضول، ويحاول أن يعرف لمن الجنازة، يسأل المشيّعين، ولكنّ سؤاله يقابل باستهجان، كونه يكشف عن جهله، والكلّ يقول له أنّها جنازة”رام” ولكن من هو”رام”؟ تختلف الإجابات، فهو المثل الأعلى لأحدهم، والمعلم لآخر، ويتلقّى إجابات مختلفة من الخيّاط الذي خاط الكفن، والشاعر، ورجل الدين، وتكبر حيرته، وشيئا، فشيئا يكتشف أعداد الموتى الكبير، حتّى رجل الدين الذي يحاول أن يردّ عليه بعنف، كونه يسأل: لماذا (رام) يُدفن فوق، والناس تحت؟، وحين يشعر باليأس يرجع الضابط لمكانه، ومعه تساؤلات كثيرة، يحاول تدوينها لمعلمه، لكنه فجأة يعود للمكان نفسه ليعرف بنفسه من الميت؟ فيبدأ بنبش القبر، فيتفاجأ بأن الميّت هو معلّمه، ومثله الأعلى، وحين يكتشف ذلك يضحك الجميع بطريقة هستيرية، في ردّة فعل مفاجئة، فيستدعي جملة قالها على لسان معلّمه: “لو ماتت الكرامة، فكلنا نموت”، فيقرّر العودة إلى الطاولة، ويمزّق رسائله، ثم ينضمّ للمرأة، ويغرف الماء ليسقي الصخور، وعند هذا المشهد تجمد الصورة، ونعود للسؤال الذي ظهر على الشاشة في بداية الفيلم: ماذا عن استعادة الكرامة التي ماتت؟ لنعرف أنّ (رام) هو معادل للكرامة، وموته موت الكرامة التي شارك الجميع بدفنها، وخصوصا: الضابط، والمرأة، ورجل الدين، والخيّاط، والشاعر، في خضمّ الصراعات الكبرى، وتفشل المرأة باسترداده، حين ردّدت التعويذة، دون جدوى، فقامت بوضع الماء بالدلو، وسقي الصخور الجرداء قبل ظهور الضابط، ومراقبته حركة المرأة، من ثم دخول مشهد الجنازة، لكنه يختار في النهاية الإنضمام لها، في محاولة لإعادة الحياة لا بالتعويذة، بل بالماء الذي هو رمز الحياة (وخلقنا من الماء كل شيء حيّ).
لقد رسمت عدسة نعمان إبراهيم صورا تشكيليّة من خلال اللقطات المفتوحة في الجبل، والوادي، والبحر، ضمن منظومة من التشكيلات البصريّة التي أعطت للقطات عمقا ، وقد رفعت الموسيقى التصويرية التي صمّمها كامل البلوشي، إيقاع الحدث الدرامي ليعمّق غرائبيّته، ويوصل رسائله، مثلما جاء الأداء الجماعي متناغما مع الأجواء العامّة لفيلم وجد المتخصّصون صعوبة في تفكيك شفراته، ربما هذا واحد من الأسباب التي جعلني أعيد مشاهدته أكثر من مرّة، وفي كلّ مرّة ينفتح باب مغلق من غوامضه المدهشة في فيلم ينتمي للإسهامات التجريبية في السينما العمانية، التي أبرزها إسهامات الشاعر، والكاتب سماء عيسى في أفلامه القصيرة: بنت غربي، والزهرة، والكارثة، وما إلى ذلك من تجارب أسّست حضورا لافتا في المهرجانات الدوليّة، ونالت جوائز، وثناء النقّاد !

رابط الفيلم
https://www.youtube.com/watch?v=5ufyqsiQ5D8&t=167s&ab_channel=SAMAARTPRO