17 نوفمبر، 2024 5:34 م
Search
Close this search box.

راشد الذي لم يزرع راشد الذي لم يزرع

راشد الذي لم يزرع راشد الذي لم يزرع

راشد يزرع ،
راشد فلاح . .
وراشد ذلك الفتى العراقي الذي ينشر شماغه ويحمل مسحاته على كتفه مقبلا على الدنيا على صفحات كتاب القراءة لمحو الأمية .

كل أمهاتنا وعماتنا وأخواتنا عرفن راشد ذلك الذي يزرع والذي سيقبل عليهن بما تستجيب به الأرض لكده وتعبه ، وبالخير الذي سيتحقق كثمرة لعرق راشد الذي يتفصد ويسيل على صفحتي وجهه وعلى صدره العريض بعرض خارطة العراق .

وصار الكل يتغنى ، راشد فلاح راشد يزرع ، من شمال العراق حتى جنوبه ومن شرقه الى غربه .

وصرن الصبايا بحيائهن العراقي العذب الجميل يتواردن الخواطر بهذا العريس ذو الهمة والشيمة العراقية المقدامة التي تسقي الأرض .

هل ان راشد طويل القامة كما يتخيلن ، أم قصير ، أم مربوع القامة . . ؟ . .

هل هو أبيض بلون القداح والتوت العراقي والتفاح ، أم أسمر بلون الأرض والقمح . . ؟ . .

هل هو من بغداد أم السماوة أم الموصل أم كركوك أم ديالى أم البصرة ، من أين راشد . . ؟ . .

غير ان راشد لم يأتي .

وضاعت فصول محو الأمية ككل الفصول الضائعة أو التي لم تصل الى نهاياتها من حياة العراقيين .

واختفى راشد بين الجموع التي تم سوقها الى الحروب والجبهات وسواتر الموت والحريق .

ترك راشد مسحاته ، ورماها بين المهملات وترك أرضه وربيع حقوله ذاهبا (( للدفاع ! )) عن (( زين القوس وخضره وهيله )) بضعة أشبار من الأرض لم نسمع بها من قبل ولاوجود لها في ذاكرتنا العراقية وربما لاتصلح حتى لأن تسكنها الأفاعي ، و(( طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى )) جزر في خليج ما من أرض الله التي لاناقة لراشد بها ولاجمل ولم يراها أو يتخيل انه قد يحرث في أرضها يوما .

مجموعة حجج واهية كان الغرض منها دفع راشد نحو المحرقة والقضاء على عزمه المفتول وصدره المقبل على الدنيا .

ولتصبح بغداد براشدها وصباياها ثمنا لحكاية سمجة . أصبحت بغداد مقابل (( زين القوس وخضره وهيله )) أو (( طنب الكبرى والصغرى وأبوموسى )) ، رواية حماسية ساذجة فصولها غير مبررة ، راويها مستهتر يقود المستمعين الى براثنها ومهاويها بالسيف والحبل والنار .

ومن يومها وضعت أقدام راشد على مفترق الطريق ، أما ان يساق مع القطيع لأجل هذه (( الكرامات ! )) العربية الوهمية التي ضحكوا علينا بها طيلة أكثر من نصف قرن ، وأما أن يتنادى الرفاق ورجال البدلات (( الزيتوني )) والبوتات الحمراء لأعدامه أمام بيته على وتدفع أمه ثمن الرصاصات التي يقتل بها .

فساق راشد نفسه مع القطيع خوفا على أشياء كثيرة .

ومن يومها شطب راشد على نفسه بعدم الأهمية ، وعدم الجدوى .

وتعددت المفترقات والتشعبات أمام راشد .

وحين تمت اعادة هذا القطيع من هذه الحرب ، لم يعد راشد سالما لأنه تعلم القتل والحرق والتشظي ، تشبع بمشاهد الدمار وامتلأت نفسه .

وبعد صياغة صياغة الرواية الثانية بفصول أكثر سماجة وقبح وعدم أهمية ، كان راشد أيضا مع القطيع عبر سفوان الى العبدلي ثم الكويت .

وحين أعيد القطيع من الكويت لم يتم انجاز مامتفق دوليا وسريا عليه بشكل كامل وهو القضاء على الجيش المنسحب بواسطة الطيران الأمريكي قبل وصوله الى بغداد ، لأن وابل النيران التي تم صبها على الجيش خوفا من وصوله الى بغداد قد أخطأ راشد ، وبيوت الكثير من العراقيين والعراقيات الماجدات في جنوب العراق قد تم فتحها لتأوي راشد ونثار قطيعه .

ومن يومها أصبح راشد يشعر بعدم الأهمية وعدم الجدوى وعدم القيمة لكل شيء وشعر بالخسران والمتاهة .

وحين قامت الجيوش الأمريكية بكسر أبواب الدوائر والمخازن الحكومية عقب حربها الجديدة لأسقاط النظام و(( تحرير ! ! )) العراق ، كان راشد هذه المرة أول من يمارس عبثه وطمعه ويضع نفسه في فوضى (( الحواسم )) لأجل أن يحصل على مايملأ به يده الفارغة وحاجته وعوزه طيلة هذا العمر الطويل ويحوسم ماتمكن عليه في تلك الفوضى التي تعمدتها السلطة القائمة بمسك زمام الأمور وقتذاك وهم (( الأميركان )) .

بتأريخه هذا ، فأن راشد قد تعود أن يكون مجرد أداة فعل لما يتم فعله وتدبيره من فوق ، فحين كان يساق مع القطعان الى الحروب هو فعل من فوق واستجابة واجبة على راشد . وهكذا تعلم أن يكون مساقا ، يرسم ويخطط له وهو يمضي بهذا الأتجاه المرسوم .

في تطورات (( زوبعة )) تحرير العراق وجعله (( مدني ديمقراطي ! )) تاهت تماما موضع القدم على راشد ولم يعرف أين يصطف حين سعى الأحتلال (( المحرر ! )) بكل جهده الى خلق اصطفافات طائفية على أسس مذهبية وعرقية ، فوجد نفسه طائفيا بالفطرة مصطفا الى جانب الفئة التي هو منها .

وعندما تم تأزيم الخطابات واشعالها بين الطوائف لحد القتل والذبح والتهجير ، تأرجح راشد بين اندفاعه مع طائفته حينا وبين صمته وحياده حينا آخر وتمزق في خياراته المتأرجحة التي صارت تدفع بها الأحداث والسياسات والأجندات نحو التفجر ، وقد ضاع الزرع وتاه الفلاح فأصبحت الأرض بورا .

بعد أن وجد راشد ان بغداد مهددة هذه المرة فعلا بالزحف القادم نحوها حيث ضاع ثلث العراق وتم بيعه وقبض ثمنه ، احتشد مع المحتشدين للدفاع عنها سواء بأسمه الطائفي أو بأسمه العراقي ، فكل الطرق تؤدي الى ذات الهدف .

وشعر هذه المرة بفعل حقيقي مرض له ، فهي ليست زين القوس وهيله ، وهي ليست طنب الكبرى أو الصغرى التي لانعرف ولم نأكل من خيرها ولم نسمع عنها ولها شعبها ولانريدها ، وهي ليست كويت الدسائس والعهر ، انها بغداد التي تعني ماتعني .

وبينما كان راشد يقاتل ويصارع الضباع والوحوش في الفلوات والقفار وأطراف بغداد وقلب المحافظات الأخرى كاشفا صدره للرصاص والريح والصقيع وبرد البراري والحر والغبار والهجير بلا مقابل وقد ترك خلفه أرضا جرداء وعائلة معوزة ، كان ثمة من يظهر ويصدر نفسه وينسب الغنيمة والفعل له ، فيهم من هو شيعي وفيهم من هو سني ، هؤلاء الذين يلمعون أنفسهم ووجوههم المسطحة المليئة بالكذب والأحتيال والتزوير والغش والرياء ، يصنعون كروشا ومؤخرات على أنقاض الخراب ونهر الدم ، يبنون قصورا وأمجادا وبريقا ويتنعمون بالغنائم ويمنحون أنفسهم الهبات ، يتاجرون بالدسائس وبيع الأوطان والأديان والمذاهب والأرث والمباديء ، يمتهنون الكلام والتحريف والتآمر والفساد ، ويقطفون ثمارا وأحلاما وثروات لم تكن في مخيلتهم يوما .

متاحة لهم ولهم فقط كل النعمات دون غيرهم من العراقيين بعد أن تربعوا على الكراسي .

فعرف راشد انها دوما لأجل :

(( مت أنت هناك ، لأتنعم أنا هنا )) .

ففرك راشد عينيه المتعبتين المؤرقتين في تلك البادية البعيدة ، والدنيا تخور به وتأرجحه بين اليمين وبين الشمال .

وقد توارد في ذهنه :

انه راشد الذي لم يزرع

أحدث المقالات