ولد ألكساندر نيقولايفتش راديشيف عام 1749 في مدينة موسكو وتوفي عام 1802 في مدينة بطرسبورغ, و بالتالي فانه ابن القرن الثامن عشر في روسيا , وهو مفكر ورجل قانون وشاعر و كاتب ومثقف روسي من الطراز الاول, يرتبط اسمه قبل كل شئ بكتاب واحد معروف ومشهور في تاريخ الادب والفكر الروسي اصدره باسم مستعار عام 1790 عنوانه – ( رحلة من بطرسبورغ الى موسكو ), وقد اعتقلته السلطات الروسية آنذاك و حاكمتهبسبب هذا الكتاب وأصدرت المحكمة حكم الاعدام شنقا بحقه, ورفعت المحكمة قرار الاعدام هذا الى قيصرة روسياالامبراطوره الشهيرة يكاترينا الثانية ( 1729-1796)لغرض المصادقة على تنفيذه وقالت الامبراطورة عندها جملتها الشهيرة – ( انه متمرد أسوأ من بوغاتشيوف, ذاك على الاقل اعتبر نفسه قيصرا وكان يدعو الى نظام ملكي, اما هذا فانه يدعو الى الثورة وتاسيس جمهورية !)واشارت الى انه يستحق الاعدام فعلابسبب هذا الكتاب الا انها قررتالرأفة بحاله وألغت حكم الاعدام بحقه وحولته الى عشر سنوات يقضيها في منفىبسيبيريا . تتناول مقالتنا هذه سيرة حياة هذا المفكر الروسي الرائد بشكل عام وتتوقف عند بعض جوانب كتابه الخطير ( رحلة من بطرسبورغ الى موسكو), رغم ان بعض الباحثين العرب قد تحدثوا عن هذا الموضوع جزئيا وخصوصا بشأن موقفه السياسي والثوري , الا اننا نرى ان هذا الموضوع لا يزال يتطلب المزيد من الدراسات والبحث والتقصي بالنسبة للقارئ العربي المهتم بتاريخ الادب والفكر الروسي .
ولد راديشيف في عائلة غنية من نبلاء روسيا , وتم تعليمه في البيت كما كانت الامور سائدة آنذاك , ثم التحق بعدئذ في دراسات خاصة للنبلاء بمدينة بطرسبورغ ولمدة اربع سنوات لاعدادهم كي يكونوا ضمن الحاشية الادارية المرافقة للنظام القيصري , وارسلوه بعد ذلك الى المانيا لاكمال تعليمه , ودرس القانون هناك في جامعة لايبزك , وكان في نفس الوقت يهتم بالكيمياء والعلوم الطبية و الفلسفة والموسيقى ايضا , وفي المانيا تبلور فكريا واصبح متخصصا في القانون ونضجت في اعماقه الروح الراديكالية المتداخلة مع الاحلام الانسانية المثالية بشأن العدالة المطلقة التي يجب ان تسود في كل المجتمعات, وهكذا اقترب من فكرته الاساسية ( والتي سيدعو اليها لاحقا في نشاطه الفكري ) وهي عدم تناغم الحكم الملكي القيصري المطلق في روسيا مع متطلبات العدالة والمساواة ,واستحالة انسجامه مع تلك المتطلبات او حتى الاستجابة لهاولو جزئيا, وهو ما حددته بدقة الامبراطورة يكاترينا الثانية عندما اطلعت على كتابه ( رحلة من بطرسبورغ الى موسكو ) كما أشرنا اليه اعلاه. عاد راديشيف من المانيا الى روسيا عام 1771, وتم تعينه في مدينة بطرسبورغ وتنقل للعمل بين عدة مؤسسات حكومية , وبدأ بالنشر والترجمة , وصدرت له دراسة مترجمة بعنوان – ( تأملات حول التاريخ الاغريقي ), وغيرها, اما طريقه الابداعي فقد ابتدأ عام 1789 عندما نشر بعض الاصدارات منها – ( حياة فيدور فاسيليفتش اوشاكوف وبعض نتاجاته ), وعندما تم السماح في روسيا لعمل المطابع الاهلية , اقتنى راديشيف مطبعة ووضعها في بيته عام 1790 , وابتدأ بطبع كتابه المشهور – ( رحلة من بطرسبورغ الى موسكو ) ومن الواضح انه خطط عندما اسس مطبعة في بيته ان يطبع هذا النتاج المهم ويشرف عليه بنفسه لانه كان يوليه اهمية خاصة جدا ويعرف قيمته الحقيقية مسبقا, وهكذا صدر هذا الكتاب باسم مستعارفي نفس العام الذي اقتنى فيه راديشيف المطبعة تلك اي في عام 1790.لقد حصل الكاتب بالطبع على سماح الرقابة باصدار ذلك الكتاب كما كانت تقتضي ظروف روسيا آنذاك , ولكن الرقيب لم يطلع على الكتاب بعمق و بالتفصيل, اذ ان عنوانه – (رحلة من بطرسبورغ الى موسكو) لا يوحي بشئ – ما محدد, وتتوزع فصوله المتعددة تحت اسماء المدن والقرى التي يمر بها المؤلف ويتوقف فيها , وهكذا اعتبره الرقيب كتابااعتياديا , بلو بمثابة دليل ليس الا لرقعة جغرافية من روسيا يتحدث فيها المؤلف عن انطباعاته عن تلك المدن والقرى التي يتوقف فيها ومشاهداته وملاحظاته هنا وهناك وبالتالي اجاز طباعته ونشره دون التمعن بمضمونه بشكل دقيق وشامل وعميق. وهكذا صدر الكتاب في مايس/ مايو عام 1790 و انتبهت السلطات الى الافكار المطروحة فيه بعد فترة قصيرة جدا وتم اعتقاله رأسا وبدأت محاكمته , وفي ايلول/ سبتمبر من العام نفسه صدر الحكم عليه, وأشاروا فيه الى ان راديشيف اعترف وأقرٌ بذنبه وبجريمته وانه حنث بقسمه بشأن الاخلاص لمنصبه ومكانته , وان هذا الكتاب يهدد ( السكينة الاجتماعية ) ويدمرها ويحرض ضد السلطات الحكومية واحترامها من قبل الشعب ويبث التذمربين الناس تجاهها ويساهم في تهديم الحكم القيصري وتقويضه ويؤثر على سلطات الكنيسة ومكانتها, ولهذه الاسباب كلها فان مؤلف الكتاب يستحق الاعدام شنقا, وعندما رفعوا هذا الحكم الى يكاترينا الثانية خففت الحكم الى عشر سنوات في سيبيريا كما ذكرنا اعلاه . وقد تم اتلاف كل نسخ الكتاب بالطبع وأصدروا أمرا بمنعه من التداول كليا. وهكذا بقي راديشيف في منفاه بسيبيريا الى ان توفيت يكاترينا الثانية بعد ست سنوات من الحكم عليه , واعاده القيصر بافل الاول عام 1796 ولكن دون السماح له بالعيش في مدينة بطرسبورغ, وبعد مقتل القيصر بافل الاول في عام 1801 وتنصيب القيصر الكساندر الاول , تم السماح له بالعودة الى بطرسبورغ و تعينه عضوا في لجنة وضع القوانين وصياغتها باعتباره واحدا من المع المتخصصين بالقانون, وقد وضع فعلا مشروعا قانونيا ليبراليا ينص على مساواة الجميع امام القانون وتناول فيه موضوع حرية المطبوعات ..الخ, مما ازعج رئيس اللجنة , الذي ذكٌره بماضيه وما جنت عليه افكاره من اعتقالات ومحاكم وسجون ومنافي , وقد تأثٌر راديشيف بهذه الاحاديث وتذٌكر معاناته في سيبيريا لدرجة انه قرر الانتحار وشرب السم وتوفي في ايلول/سبتمبر عام 1802,الا ان هناك آراء اخرى تشير الى ان وفاته كانت طبيعية, ولا زالت هذه المسألة غير محسومة في التاريخ الروسي ,اما بشأن كتابه ,فقد بقي محظورا منذ منعه عام 1790 الى عام 1905 عندما حدثت الثورة الروسية الاولى وألغت السلطات عندها ذلك المنع, وفي اثناء تلك الفترة الطويلة كانت هناك بعض النسخ القليلة جدا يتم تداولها بشكل سري , وكتب بوشكين عام 1836 مقالة حول راديشيف واستشهد بمقاطع من كتابه , وحاول ان ينشر تلك المقالة في مجلته ( سوفريمينك) ( المعاصر ) ولكن دائرة الرقابة حالت دون ذلك في حينها , وقد تم نشر تلك المقالة عام 1857فقط ( اي بعد حوالي عشرين سنة من وفاة بوشكين ), وهي مقالة مهمة اشار فيها بوشكين الى ان هذا الكتاب كان ( سبب تعاسة راديشيف ومجده)وانتقد اسلوبه القديم في الكتابة واعتبر ذلك الكتاب ( نتاجا ادبيا متوسط المستوى ليس الا)وأشار الى انه يتضمن جوانب ضعيفة او مبالغة او مختلقة او مضحكة , ويعد تقييم بوشكين هذا موضوعيا جدا, اذ انه كتبه بعد ان زالت الضجة الهائلة حول هذا الكتاب وما رافقها من ردود فعل سياسية واجتماعية , هذا وقد تم نشر الكتاب في لندن من قبل الاديب الروسي غيرتسن ( 1812 موسكو – 1870 باريس ) الذي هاجر من روسيا وأصدر في لندن صحفا ومجلات روسية معارضة , الا ان تلك الطبعة من كتاب راديشيف كانت غير دقيقة , اما في داخل روسيا فقد جرت محاولة لطبعه بعد الغاء حق القنانة عام 1860 , وقد حدثت هذه المحاولة عام 1872, الا ان السلطات جمعت النسخ كافة ودمرتها, ولم يتم طبع الكتاب الا في العهد السوفيتي, اذ اعتبروه ( اول كتاب ثوري روسي ) وادخلوه في المناهج المدرسية والجامعية واشاد به لينين وبليخانوف ولوناجارسكي واخرون , اما في الوقت الحاضر , فان كتاب راديشيف هذا اصبح جزءا من تاريخ الفكر الروسي ليس الا, ولم يعد مضمونه ولا اسلوبه يثير القارئ الروسي المعاصر.