23 ديسمبر، 2024 10:32 ص

رابطة أصدقاء ماركيز في الجبايش!

رابطة أصدقاء ماركيز في الجبايش!

أنهيت كتابي (ماركيز يكتب عن سامراء) وخرج الى النور مطبوعاً، وقد أهديته لذكرى زملاء معي عاشوا معي في نفس المدرسة بواحدة من مدارس قرى الجبايش. أصدقاء أحلام المكان وميتافيزيقاه وكل ما منحنا من ألفةٍ وقراءات وخيال سفرات الصيف الى شاطئ فارنا ووارسو واسطنبول ومصيف شقلاوة وسره رشت في شمال العراق.
في ذلك الوقت هبت علينا موجة غريبة من الحداثة التي لم نألفها في روايات الكتاب الروس والفرنسيين والأدب المصري والعراقي، أنها غرائبية (غابريل غارسيا ماركيز) مع أول رواية له تصعد المشحوف ويتطلع سائق الزورق الى غلافها ويسألني أن كان في الكتاب شيئا عن حزن كربلاء، فأرد: أنه حزن العزلة. سكنَ المكان العشق الغريب لعالم هذا الروائي الذي بدأ صحفيا مغمورا يكتب تحقيقات اجتماعية بالإسبانية في صحف العاصمة (دي بوغاتا) الى روائي نال جائزة نوبل بالأدب.
لقد أتت رواية مائة عام من العزلة لتضيف الى متعة القراءة فينا مناخات لم نألفها فيما مضى لتختلط رائحة الجوافة برائحة السمك فتسكننا متعة أننا صرنا نتبادل الرواية باستعجال، وحين تنتهي اعارتها فيما بيننا نُعيرها الى معلمين في مدارس بقرى أخرى.
يومها أقترح علينا صديق أن نؤسس رابطة تشمل المعلمين من محبي ماركيز في الأهوار ونسميها (أصدقاء غابريل ماركيز) وتبرع هو أن يكتبَ نظامها الداخلي .
قلت وقتها ضاحكا: وأن عرف الأمن والفرقة الحزبية بذلك؟!
قال: نريهم روايته!
قلت: وستكون هناك الكارثة والزنازين في انتظارنا عندما يقرأون خريف البطريق!
قال: نجعلها سرية!
قلت: نعم ستكون بديلا عن الحزب الشيوعي الذي صار عمله سريا بسبب تهدم الجبهة الوطنية!
ثالث قال: لا عليكم هذه رابطة ادبية وليست سياسية ولن نجعل لها صريفة تكون مقرا ولن نكتب يافطة تعريف لها، أنها رابط لتنظيم توزيع روايات ماركيز بين مدارس الاهوار.
وقتها كان شغاتي منذهلا بأجواء الغابات الكولومبية ويتفاخر انها قرأها ثلاثة مرات حتى استوعبها، وأنه صار يفهم تماما أن عالم كهذا ينبغي أن يجيء الى الأهوار إذا أراد أن يؤمن أن العزلة من بعض دواء فوضى الحضارة وحروبها. لهذا قال: انا اتبرع لأكون ساعيا لهذه الرابطة وأقوم بتوزيع روايات ماركيز بين القرى.
ومع موجة ماركيز، أتت موجة مدافع عبدان، فكانت الحاجة الى ماركيز حاجة لمتعة الروح ونسيان الصورة اليومية المؤلمة لنعوش الجنود من أبناء المعدان وهم يأتون بزوارق حزينة الى قراهم بعد أن نالوا حصتهم من شظايا مدافع (الدان) الايراني او قناصي الحرس الثوري واغلبهم اتوا من جبهة المحمرة والبسيتين.
وقتها لم يكن الموت مقتصرا على تلاميذ مدرستنا الذين كبروا وارتدوا خوذ الحرب، بل أننا في الاشهر الأولى اعطينا “شهيدين” من اعضاء رابطتنا من المعلمين الذين تم سوقهم الى خدمة الاحتياط قبل ان يصدر قرار انتداب المعلمين، وبهذا اصبح للرابطة كيانها الوجودي والحقيقي في الحياة والمجتمع ليسكننا حزنَ أن ماركيز يفارق اثنين من مدمني قراءة روايته بسبب الحرب، وأظن أن حزنهم سيكون كبيرا لأنهم ذهبوا الى فردوس دلمون ولم يقرأوا بعد رواية ماركيز التي صدرت حديثا (ليس لدى العقيد من يكاتبه).