18 ديسمبر، 2024 6:29 م

رائد محمد الحواري:رسائل من القدس وإليها تحمل هموم شعب ووطن

رائد محمد الحواري:رسائل من القدس وإليها تحمل هموم شعب ووطن

صدر عن مكتبة كل شيء في حيفا قبل أسبوعين كتاب” رسائل من القدس وإليها” للأديب المقدسي جميل السلحوت والكاتبة صباح بشير، ويقع الكتاب الذي يحمل غلافه الأوّل لوحة للفنّان التشكيليّ محمد نصرالله، ومنتجه وأخرجه شربل الياس في 182 صفحة من الحجم المتوسك.

توجه في الآونة الأخير مجموعة من الأدباء إلى كتابة أدب الرسائل، وهذا ظاهرة محمودة، فنحن في المنطقة العربية نعاني من شح في هذا التوع من الأدب، فقد صدر رسائل بين محمود شقير وشيراز عناب، وها هو جميل السلحوت وصباح بشير يدونان رسائلهما في كتاب “رسائل من القدس وإليها”، فبداية المراسلات كانت في القدس حينما تقابلا في ندوة اليوم السابع التي يقيمها أدباء القدس أسبوعيا في مسرح الحكواتي، ثم تم سفر جميل إلى الولايات المتحدة لمدة ثلاثة أشهر واستمر الرسائل، ثم سافرت صباح بشير إلى الإمارات العربية ومكثت فيها عدة سنوات، ثم انتقلت إلى المملكة المتحدة وعاشت في لندن فترة من الزمن، إلى أن استقرت في حيفا، فالعنوان منسجم مع مكان إرسال الرسائل، حيث كانت الرسائل في البداية تكتب من القدس وترسل إلى القدس، لكنها لاحقا كتبتها صباح بشير من خارج القدس؛ لتصل إلى المقدسي جميل السلحوت.

بما أن التعارف بينهما كان من خلال حلقة نقاش أدبي، فقد أخذت الرسائل هذا الجانب بين الاعتبار، وبما أن مشاركة صباح جاءت متأخرة على الندوة، فقد استدعى هذا أن يشير جميل السلحوت في أول رسالة إلى بدايات الندوة، ومتى عقدت وفي أي مكان: “..وقد تعودنا على حضور مبدعين من طالبات وطلاب من بناتنا وأبنائنا في الداخل الفلسطيني، الذين يدرسون في الجامعة العبرية للمشاركة في ندوة اليوم السابع التي تأسست في الفاتح من شهر آذار ـ مارس 1991” ص6، وهذه إشارة إلى عمق المؤسسة الثقافية الفلسطيني، وعلى أنها مستمرة، فزمن كتابة الرسائل بدأ في 11 نيسان ـ ابريل 2010 وانتهت في 31 -12-2021 وبهذا يكون عمر الندوة ثلاثون عاما، وعمر الرسائل أحد عشر عاما.

تشير صباح بشير إلى بداية اهتمامها بالأدب وكيف أن والدها كان له الفضل في هذا الجانب من خلال المكتبة المنزلية التي أسسها: “…مكتبة خاصة لوالدي، تدهشني بكل ما تحتويه من الكتب الثقافية والأدبية، وغيرها من كتب علم النفس التي كان والدي شغوفا بها” ص21، ثم تنتقل إلى ما تعانيه المرأة في المجتمع الذكوري بقولها:”…فالنظرة الدونية للمرأة مازالت قائمة وسط اتهامات قاسية محبطة ومستفزة أحيانا،.. بسبب تلك الثقافة الذكورية البالة، تتأخر المرأة وتمنع من تسجيل تفوقها على لوحة الإنجاز” ص21، الجميل في هذه الرسالة الإشارة من صباح أنها تؤكد على حالة الظلم التي تقع على المرأة العربية من مجتمعها/أهلها وعلى ضرورة إزالة (الثقافة الذكورية) من المجتمع، لكي يتقدم المجتمع ويتحرر الوطن.

وهذا ما استدعي من جميل السلحوت ليشير إلى روايته “ظلام النهار” وما تحمله من مضامين اجتماعية: “..وفي روايتي الأولى “ظلام النهار” التي صدرت هذا العام 2010، فهي تتمحور على التخلف والجهل والموقف من المرأة، وقد طرحتها بطريقة مقززة ومنفرة لمحاربتها وليس لترسيخها” ص16، نلاحظ رسائل، رسائل تكاملية، حوارية، تنمي المعرفة وتعمق محور النقاش، وهي متعلقة بجوانب أدبية ثقافية اجتماعية، وهذا ما يجعلها قريبة من المتلقي الذي يجد همومه فيها.

تنقل صباح بشير رؤيتها الأدبية لرواية السلحوت بقولها: “…أنت تعلم بأن اللهجة العامية تختلف من منطقة إلى أخرى في بلادنا، لذا فاستعمال اللهجة المحكية لمنطقة ما قد يعيق الفهم لقارئ آخر يعيش في منطقة لا تتحدث ذات اللهجة، ليتك لجأت إلى اللغة الثالثة؛ لتصبح الكلمات مفهومة للقراء كافة… وملاحظة أخرى وهي أنني لاحظت بعض الأخطاء المطبعية التي كان يمكن تلافيها” ص 31و32، هذا الطرح يبقي مضمون الرسائل ضمن مكان ندوة اليوم السابع، حتى أنها تبدو استمرارا للندوة وللمحاورات التي تجري فيها.

بعد سفر جميل السلحوت إلى أمريكيا يتحدث في رسالته عن تلك القارة وما فيها، يتحدث عن رؤيته للمجتمع الأمريكي بقوله: “رأيت غالبيتهم يتناول أحد ملاحق الصحيفة ويدفع ثمنها ويترك الصحيفة، لكنهم يثقون بحكومتهم ويطيعونها بشكل أعمى، لأنها منتخبة من قبل الأغلبية، وتوفر لهم سبل الحياة الكريمة كلها” ص38و39، اللافت في هذه الرسالة أنها تتحدث عن تفاصيل كثيرة عن جغرافية أمريكيا وسكانها، فكانت أقرب إلى أدب الرحلات منه إلى أدب الرسائل، وقد تناول الطالب العربي بصورة متميزة تجعل القارئ يشعر بالنشوة: “…أن جامعاتها ترحب بالطلاب العرب، لأنهم يرفعون اسم الجامعة باجتهادهم، وأن 92% من الطلاب العرب ينهون الشهادة الجامعية الأولى دون أن يقصروا بمادة واحدة، يأتون إلينا وسريعا ما يتعلمون اللغة ويتفوقون على الطلبة الأمريكان” ص43.

تقرأ صباح بشير رواية “جنة الجحيم” لجميل السلحوت وتبدي وجهة نظرها فيما جاء فيها: “تتميز الرواية بالسهولة والبساطة، وشعرت بانسيابها العفوي، فهي أقرب ما تكون إلى الواقع المعاش، … شعرت أنني أعيش الأحداث، أعاينها وأرصدها عن قرب.

لكن لي بعض الملاحظات…فاستخدامك اللهجة المحكية بكثرة، تكاد تكون عسيرة على الفهم بالنسبة للكثيرين، كما أن العنوان “جنة الجحيم” مربك بعض الشيء، وكم تمنيت لو أن كلمة جحيم لم ترد مطلقا في العنوان” ص50، بهذه الرسالة تحافظ “صباح بشير” على الجانب الأدبي في الرسائل، وتبقيها ضمن ندوة اليوم السابع، المكان الذي تعارفا فيه.

يرد جميل السلحوت على الملاحظات بقوله: “…إلا أن الاحتلال بجرائمه وانتهاكه لكرامتنا ولحرماتنا ولإنسانيتنا قد قلب نعيم العيش في وطننا إلى هوان دائم، وهكذا جاءت رواية “هوان النعيم” وأنا الآن في مرحلة تشطيب الجزء الرابع من هذا المسلسل الروائي” ص52، المحاورات الأدبية وإبداء وجهات النظر ميزة تحسب لهذه الرسائل، إضافة إلى تناولها المشاكل الاجتماعية والهموم السياسية في المنطقة العربية، ولما تقدمه من معرفة جغرافية للعديد الأماكن، إن كانت في فلسطين أو خارجها.

تتحدث صباح بشير عن ظاهرة الدين السياسي وأثره السلبي على المجتمع بقولها:” لسيت السياسة وحدها هي من يقضي على أوطاننا، فظاهرة التعصب الديني دون الفهم الصحيح للدين، تملأ المجتمع وتكاد تغلق كل حيّز فيه، وها نحن نشهد تحولات خطيرة بين النصوص المتشددة التكفيرية التي أصبحت أكثر انتشارا… التطرف يلغي أي هوية أخرى مهما كانت، وهذا ما يحد من التعددية والتنوع والاختلاف والمشاركة في تيسير الحياة” ص57، من هنا تأخذ الرسائل الاهتمام في الجوانب الاجتماعية والسياسية وحتى الجوانب الشخصية لكلا منهما، فقد أصبحا صديقين بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

تتحدث صباح عن مشكلة العقل العربي وكيف أنه يسير ضمن منطق القطيع:”…لثقافتنا الشرقية التي تؤكد على التبعية مسؤولية الفرد تجاه المجموعة وإكراهه على تنفيذ وابتاع سياسة القطيع، دون الاهتمام بتعليمه وتهذيبه أو إكسابه قيم المواطنة الحقيقية والانتماء، نحن نشجع السيطرة والتسلط على الإنسان وعلى حالته الذهنية والفكرية، كذلك نتدخل في أدق تفاصيل حياته” ص69و70، وإذا عدنا إلى ما جاء في رسالة “صباح” يمكننا التأكد أنها تتحدث عن وجع عام ووجع شخصي، فهي ترى مجتمعها/ وطنها/ شعبها/ أمّتها تعاني وتتلذذ بمعاناتها، فهي أمة/ مجتمع غارق في الألم، ويتلذذ بما هو فيه بشكل مازوشي، معتبرا نفسه متميزا عن بقية الأمم/ الشعوب رغم أنه من المجتمعات المتخلفة والمتقهقرة.

الواقع القاسي يفرض على الإنسان إيجاد مخرج، شيء يخفف عليه شيئا من هذه القسوة، لهذا وجدنا “صباح” تنتقل إلى أكثر من مكان، أحد عناصر التخفيف، وكذلك تتجه إلى الكتابة/ القراءة التي تجد فيها:”..أعشق القراءة والكتابة، أتجدد بهما وانبعث فيهما” ص80، إذا عدنا إلى الرسائل سنجد أن “صباح بشير” تتحدث عن المشاكل الاجتماعية أكثر من جميل السلحوت، وهذا يعكس واقعها الاجتماعي الذي تكتمت عليه ولم تتناول منه إلا النزر اليسير، بينما كان جميل السلحوت تحدث وبإسهاب عن تفاصيل كثيرة عن حياته وعن أسرته وزوجته وأحفاده، لهذا كان مضمون رسائله تتجه نحو المعرفة أكثر منها للنقد.

يتحدث جميل السلحوت عن جغرافية فلسطين بطريقة مفصلة، وعن الاستيطان ودوره في تهويد المكان:” بلدتنا السواحرة … كان أبي يفلح الأرض بالحبوب، وكان مصدر رزقنا الوحيد يعتمد على الفلاحة وتربية المواشي، مررنا بمنطقة الخلايل التي امتدت عليها مستوطنة “معاليه أدوميم” وابتلعتها، ومررنا بمنطقة الصرارات التي تقوم عليها مستوطنة “نيؤوت أدوميم” …ووقفنا على قمة جبل المنطار، ومن هناك رأينا إلى الشمال الغربي منا، أبو ديس، العيزرية وجبل الزيتون، ورأينا القدس الشريف ومسجدها الأقصى المبارك” ص100، اللافت في هذه الرسلة التي تمتد من صفحة 100 إلى صفحة103 أنها تتناول المكان وما جرى فيه، مبقية شيئا هامشيا بسيطا تحدث فيه السلحوت عن مشروعه الأدبي في روايتي المطلقة والخاصرة الرخوة”.

جميل السلحوت يتقدم اكثر في أدب الرحلات، فيتحدث في إحدى الرسائل عن تفاصيل هذا الأدب، وكيف أنه كان محطة اهتمام العديد من الرحالة العرب، ثم ينتقل ليتحدث عن رحلاته، وكيف أنه اسهم في كتابة أدب الرحلات من خلال كتابه “في بلاد العم سام”.

في عصر النت وتطور التكنولوجيا أصبحت عملية الطباعة والنشر أسهل، بحيث يمكن لكل من يمتلك المال وعنده كتابات مهما كانت أن ينشرها، يتحدث جميل السلحوت عن هذه الظاهرة بقوله: “…يلاحظ تهافت بعض من يحلمون بأنهم قادرون على الكتابة، فرأينا عشرات بل مئات الكتب التي تطبع على حساب كاتبيها في مجالات مختلفة، ومع أن هكذا كتب في غالبيتها لا قيمة أدبية أو فكرية لها، ولا تساوي ثمن الورق الذي طبعت عليه، ومنها مع الأسف ـ مطبوعات موجهة للأطفال! إلا أن أصحابها يجدون من يصفق ويبارك لهم” ص164و165، تؤكد صباح بشير على أن هذه الظاهرة خطرة على المجتمع وعلى الثقافة متناولة جانب ظاهرة السعي وراء الجوائز، وأثرها السلبي على الأدب والأدباء:”..الاعتراف بأن تلك الجوائز ليست معيارا لجودة العمل أو تفوقه، فعدد لا يستهان به كل يوم يجربون حظهم في الكتابة، وآخرون من المبدعين الحقيقيين يستعجلون ويتسرعون في كتابتهم، للحاق بموعد الجائزة، فتنحدر أعمالهم هبوطا دون أن تصعد إلى السلم الأدبي بنجاح”167و168.

يتحدث جميل السلحوت عن ظواهر المجتمع السلبية خاصة ما يتعلق منها بطريقة تعاملها من الموت: “…ننعى بفخر واعتزاز … فعن أي فخر وعن أي اعتزاز نتحدث، وهل ارتقاء واحد من أبنائنا سلم المجد يدعو للفخر والاعتزاز؟ وهل ننتظر هكذا ساعة لنبدي فخرنا واعتزازنا بذلك؟ ويصاحب عملية التشييع هتافات وربما إطلاق عيارات نارية، …إذا كان استشهاد إنسان ما يدعو إلى الفخر والاعتزاز، يتوجب تقبل التهاني فهل هكذا سلوك براءة للقاتل من دم القتيل؟ فإذا كان الأمر كذلك فإنه يستحق الشكر أيضا، لأنه جلب لنا الفخر والاعتزاز، وهذا ما لا يقبله عاقل” ص176و177، من هنا تكمن أهمية الرسائل، فهي تكشف وتبين الخلل في العديد من سلوكياتنا وطريقة تعاملنا مع الأحداث.

صباح بشير تؤكد على أن هناك العديد من المشاكل تواجه طريقة تفكير العقل العربي خاصة ما هو متعلق بالمؤامرة: “…بفايروس كورنا، فالفايروس مؤامرة، العلاج مؤامرة، أخذ اللقاح مؤامرة. هذه العقليات المتخلفة ترفض رفضا مطلقا كل ما هو جديد من الأفكار والقيم الإنسانية” ص181، بهذا الشكل نستطيع القول أننا أمام رسائل تناولت أكثر من جانب، فرغم أنها بدأت كرسائل شخصية-أدبية، إلا أنها تناول العديد من القضايا والهموم، فكانت أحيانا قريبة من أدب الرحلات، وأحيانا تتطرق إلى ما هو اجتماعي أو سياسي، وحتى فكري.