كنت صغيراً لا أعلم عن الدنيا إلاّ اللعِب واللهو. أبي يشقى ليأتي لنا بالمالِ دون كللٍ وأمي تجهدُ لإعداد الأفضل والأفضل من مأكلٍ ومشربٍ وملبس. لا أرى من الدنيا إلاّ الألوان الوردية الزّاهية ولا شيء في حديقةِ الدنيا إلاّ الورود والرياحين الفواحة ولا مكان للأشواك فيها ولا شيء يفسد طعم الزهو ولا شيء عنا يذهب لذة الحياة.
كنت أستهزئ من كل من يتذمر من الدنيا وحالها. لماذا يا ترى؟ لماذا الناس غير راضين عن الحياة؟ فليست العين مستمتعة لوحدها، بل حاسة الشمِّ عندي تتراقصُ على الروائحِ المنبعثةِ من قدور أمي، فكل يوم نوع جديد وطعم مميز. أمي كان لها تنور كبير في سطحِ البيتِ، كانت تعجن الطحين وتحضرهُ ومن ثم تملأ التنور بالحطبِ لتوقدها فيتعالى صوت جميل كأنهُ ايقاعات لمعزوفةِ سمفونيةِ الحب لبتهوفن ولهيب النيران تتراقص كالباليه على انغامٍ قل ما سمعتها. كنت انتظرُ بفارغِ الصّبرِ أن تبدأ أمي بلصقِ العجينةَ الأولى في جدارِ التنورِ وكأن الدخان المنبعث من النار الموقدة ليس غاز ثاني اوكسيد الكاربون الأسود السّام، بل هو الزعفرانُ بعينهِ وهو المسكُ والعنبرُ.
كنتُ الازمُها وهي ترتدي ثياباً رثّة وتقفُ لتُقارِع النّار وهي تمد يدها في جوف التنور لتُخرِج لي الخبز. تلك اليد الحنونة التي تداعب رأسي فأنام نوماً رغيداً هنياً، ها هي تلوي لهيب النار بكلِ شدةٍ لتخرج لي الرغيف الحار. أنا أعلم أن الخبزَ الحار الأول الذّي سوف يخرجُ من التنور سوف يقدمُ إليّ وليس لديّ أيُ شكٍّ في ذلك. روائحَ تنبعثُ من التنورِ والحطبُ يحترقُ والعجينةُ تتزيّن لِتقدم أمامي كعروسٍ في يومِ عُرسِها. أمي كانت تفرحُ كثيراً وأنا آكل الخبز بعكس الجميع الذين لا يفرحون إلاّ إذا أكلوا هم. أمي لم تكن تكتفي بالعجين لِتُخرِجَ الخُبزَ الذي يرُدُّ الرّوحَ، لِتذهبَ إلى وضعِ اللّحم الطازج في هذهِ العجينةِ وتتفننَ لتُخرجَ شيئاً من الفُرنِ. شيء فريد عجيبٌ في طعمهِ وغريبٌ في تأثيرهِ المُباشِرِ في روحي، هم يُسمونهُ بخبزِ اللحمِ وأنا لا أجدُ لهُ مسمّى لطعمهِ الذي لا مثيلَ لهُ، لا سيما وأن الرغيف يقدّمُ بيدِ أمي وكأن اللقمة التي تمر من حنجرتي ليست مكونة من اللحمِ والعجينةِ فحسب، بل فيها الكثيرُ من العطفِ والحنانِ الذي يبعثُ فيّ الرّوحِ السكينةَ والطمأنينةَ والخلودَ وتُخرِجُ الرّوحَ من الجسدِ لتُحلّق عاليةً في أعناقِ السماءِ. ولو اجتمعت الجنُ والأنسُ على مزجِ اللحمِ والعجين لما أخرجوا من هذا التنور ما أخرجتهُ يد أمي. يا نيوتن أين قانون الجاذبية التي تتحدثُ عنها؟ إنها لا تنطبقُ على الأرواحِ.. لم تكن الجاذبيّة الأرضيّة تعملُ وأنا أحسُّ بخفةِ الوزنِ والرّوح تطاردُ الطيورَ والنوارسَ وتعانقُ السِّحابَ في عقرِ دارها بعكسِ كل قوانين الطبيعةِ التي نقلتها لي معلمتي الاولى في مادةِ العلوم.
مرتْ الأيامُ والدّهرُ يُظِهرُ لي أنيابهُ لأشاهد الحقيقةَ المخفيةَ عنّي.. كمْ كنتُ ساذِجاً وأنا أتساءلُ لماذا يا تُرى الناسُ يقتنونَ الخبزَ من الأفرانِ؟ لماذا هذا العناءِ وطول انتظار وتحمل اللهيب أمام الأفران؟ من المؤكدِ أنَّ هؤلاءَ الناس يريدونَ التّغير وإلاّ فلماذا يشترون الخبز وفي البيت أفضل من ذلك؟ لم أجد جواباً لِسؤالي إلاّ بعد أنْ زُفّتْ أمي إلى عالم البرزخ بثوبها الجديد النّاصع البياض وبالصّمتِ القاتل، لأجدَ نفسي بعد ذلك أنتظر في طوابير طويلة أتحملُ لهيبَ الأفران لشراءِ الخبزِ بألفِ دينارٍ أو ألفين كي لا أنام اللّيل جائعاً وأنا لا أجد من يخبز لي الخبز بعد اليوم.
رائِحةُ الخبزِ التي غابت عني وقد اشتقتُ إليها منذ أن غادَرَتني أمي، غيرتْ كلُ المفاهيم وبدأتُ أنظرُ إلى الدنيا بعين أخرى مختلفة كلّ الاختلاف. اختلفت الألوان وذَبَلتْ الورودُ في بساتين حياتي وغادرتني العطور الفوّاحة. تركت امي ثلاجة أبحثُ فيها عن خبز عساها تركت لي قطعةَ رغيفٍ اتناولها الرمق كما كانت تفعلُ كلَّ مرة. أبحثُ في كل مكانٍ، تحتَ المائدةِ وخلفَ الجدران، عساي أجد رغيفاً يابساً لأمي وقد سقطَ سهواً في زاويةٍ منسيةٍ لم تُمد إليها يدُ بشر.. أمي لم تنسنِ يوماً على الأطلاقِ وكلي ثقة بأنني سأجدُ شيئاً لأمي يذهب الجوع عني ويعيدُ إليّ أمجادي. لابد أن تكون أمي قد خزنتْ لي خبزاً في مكانٍ ما، فليس للموتِ أن يُفرِّقنا وليس للفُراقِ أن يجعلَ أمي تطوي صفحتي.. أمي أكبر بكثير من الموت، أمي تتحدى النيران، أمي لن تستسلمَ إلى الأقدارِ، أمي لن تموت أبداً، أمي كالشّمسِ تغيبُ عند المغربِ لتشرقَ بعد ليلٍ طويلٍ عند المشرقِ لتنيرَ الدُّنيا وتبسط يدها لتبعثَ النّشاط والحيوية وتداعب روحي وتنعش أنفاسي. قد تكون أمي غيرتْ مكانها من محيط القلبِ إلى الاعماقِ. قد تكون إختبأت لتعودَ إليّ وهي تحملُ الخبز الحار الممزوج بابتسامتها المنعشة البعيدةِ عن المنة. قد تكون تختبرُني كمْ أشتاقُ إليها، قد تكون تختبرُ حبيّ أو تلاعبني كما كنتُ صغيراُ بالأمسِ. يا أمي إذا كنتِ تُمازحينني بغيابكِ فعودي، فما عادَ القلبُ يتحملُ وطأةَ الفِراقِ والألمِ. أمي ما أظنكِ ترضينَ لأنيني وتسكتين لوجعي. أمي إذا كنتِ تسمعينني فعودي، لتعودَ الفرحة وكلّ تلكَ الأيامِ الجميلة وتغادرنُا الذّكريات والحسرات. فما عادَ في القلبِ فجوةً يظمُ ثقلَ غيابك ويستوعب غيابك. عودي لتعود الشفقةُ والرّحمةُ، فمن ذا الذي يُشفقُ عليّ غيرك. أنا ما زِلتُ أبحثُ في الأزقةِ والدّرابينِ وفي كلِّ الطرقاتِ وبكلِّ ثقةٍ ومنذُ أن فارقتني أمي قبلَ أعوامٍ عن رائحة الخبز وظل أمي مبعث الرياحين.