27 ديسمبر، 2024 3:27 م

رائحة الزمن

رائحة الزمن

قصة قصيرة
مرّ شهرٌ منذُ أن فقدَ والده ، وها هو في عامه السابع ، ذلك الرقم المقدس الذي يحمل الكثير من الأسرار ،  كان يحسد كل أقرانه ، فمن النادر أن يتيتّم غلامٌ بهذا العمر ، لم يكن يريد أن يفيق من هول المأساة، فكم مرة في العمر ،يفقد المرء والده  ، كان يرى في والده درعا ومتراسا ، وها هو يرى نفسه عاريا ، أعزلا في مواجهة الدنيا ، ثمرة يانعة تحملها شجرة قد ماتت ، جعلته هذه التجربة القاسية يشبّ بسرعة ، بل وكأنه أدرك الكهولة ، فأكتسب الحكمة رغما عنه ، وهكذا ترك المرح والعبثية والنزق والشقاوة والتمرد التي يمتاز بها الصغار .
كان يرى الدنيا وكأنها عبء عليه مجاراته ، كالينبوع الذي لا يملك الا ان ينحدر في السواقي ، ويسير كما يسير الماء ،  كان يرى ذلك أول خطوة في العبودية ، ستؤدي حتما الى خطوات .
كان يسير عائدا من مدرسته في يوم ضبابي ممطر وبارد ، في زقاق كانت تنعق فيه الغربان ، كل الطيور تتق البرد ، الا الغراب ، وكأن في صوته الرثاء ، والحتمية ، والمستقبل المجهول ، ولوهلة أحس انه يأنس لهذا الصوت ، لماذا يتطيّر الناس من صوت الغراب ؟ ،هل للصوت العذب معايير  يشذّ عنها الغراب ؟ .
رغم صغره ، كان يتجنّب النظر الى الناس في محلته ، كان يخاف ويمقت نظرات الرثاء والشفقة من الناس ، فقد شبع منها حتى التقيؤ ، كان يعلم أن عزاؤه لهذه المأساة غير موجود في هذه الدنيا ، لكنه وجد انه يرثي نفسه لا شعوريا وبطريقته ، فقد كان يمشي بخط مستقيم ، لا يحيد عن الأوحال والطين في الطريق ، لا يأبه بالماء وهو يدخل حذاءَه البالي ، وكأنه يريد ترويض طريقه ، لا بالعكس .
ورغم كونه يمشي منكسر العينين ، الا أن رجلا في الخمسين ، بعمر والده ، استرعى انتباهه ، كان أشيب الشعر ، يشبه والده ، الا انه ليس والده ، تسمرت عيناه على هذا الرجل وكأن قوة غامضة تمنعه من تحويل نظره ، بادله الرجل بنفس النظرات المنكسرة العطوفة ، كانت تختلف عن نظرات الناس ، فلم تكن نظرات رثاء أو شفقة .
كان الرجل واقفا على خط الصبي المستقيم ، وبدا منه التحرك ببطء بأتجاه الصبي في الوقت الذي تباطأت خطوات الصبي ، المسافة بينهما كانت كالغور الذي يبتلع الزمن ، أقتربا ، انحنى الرجل ، وأحتضن الصبي ، أحس الصبي بألفة كان قد نسيها ، ألفة سحرية لا يجدها في أي رجل على هذه الأرض ،لقد كانت رائحته كرائحة والده ، فما كان من ذراعا الفتى الا ان تحركتا بتلقائية لتطوّق عنق الرجل ، تمنى الصبي ان تدوم هذه اللحظات الى الأبد ، وغشيهُ بما يشبه الغياب عن الوعي ، وانتبه الى نفسه ، فكان وحيدا كالعادة ، وأختفى الرجل ، التفت يمينا وشمالا ، لم يجد الرجل ، الا أنه أطمأنّ ولو مؤقتا ، أن هذه الدنيا ، لا يزال فيها شيءٌ من الخير .
ومرّت الأيام والسنون ، الا ان تلك الذكرى وما تمثله من بقايا الخير لم تفارقه ، صار شابا ، انغمس في الحياة شاء أم أبى ، كان يتجنب النظر في المرﺁة منذ صغره ، وكان يتعجب من أصدقائه من الشباب تعلّقهم بالمرﺁة والأمعان في النظر اليها ، لم يدرِ بالتحديد ما الذي ينفّره من المرﺁة ، ربما لأنه كان متمردا ، ويعيش حالة من نكران الحقيقة حتى على ملامحه ، والمرﺁة لا تملك غير الحقيقة ، واذا استخدمها ، كانت عيناه لا تتجاوزان حدود لحيته في الحلاقة ، كان يتجنب النظر للعينين ، ففيهما سر الملامح ، ككتاب مفتوح لا يريد الخوض فيه ، ربما فيه من الذكريات والاحداث ما يريد تجنبه.
مرّت سنون أخرى ، أحتل الشيب كل مساحة شعره ، اراد تمشيط شعره ، فشذّ عن القاعدة ، نظر الى المرﺁة ، وقعت عيناه على عينيه ، أحس بهما وكأنهما تخترقانه ، تعاتبانه على طول الجفاء ، لم يستطع الحيد عنها ، تأمل ملامحه عن كثب وروّية وأمعان ، ( يا الهي ، الرجل الخمسيني الذي اعتنقني صبيا ، هو أنا)!.