سنحاول في هذه القراءة الوقوف على حيثيات الملامح الشعرية لهذه المجموعة والى الصياغات الشكلية التي شدد عليها الشكلانيون الروس في معظم اطروحاتهم كونها تمثل النزوع الفني والابلاغي والبصري والسمعي معا . ولعل المسكة الاولى ستكون عند عتبة المجموعة كونها تحمل بعدا مكثفا وتعد رواقا للنص الاكبر . فالعنونة اضحت علما منفردا هو علم العناوين titrology الذي ابدعه وخاض غماره الاول الفرنسي جيرار جينيت كونه , اي العنوان , مفتاحا عاما master key لكل الابواب المغلقة لأنه يمس كل ما هو تركيبي وجمالي ودلالي . ولعل العنونة تأخذ اهتماما كبيرا لدى المبدع لأنها تتوخى خلخلة المستقرات لدى المتلقي , فبها ومنها يستطيع الكاتب ان يضع سنارته في ادق الاماكن ليصطاد نزوعات المتلقي , او تحريضها , او عصفها من اجل الدخول الى دائرة المتن الكبرى . لهذا كله لابد من وجود مقصدية مسبقة للعنونة وللمتلقي طرقة وادواته ووسائله في استكناه ما ترمي اليه تلك العنونة .
في الاقتراب من عنونة المجموعة انفا والمتمركزة في السيسم وهو نوع من الخشب الهندي الاصل والذي تصنع منه الات العود الجيدة والفاخرة وكذلك الصناديق الخشبية المرصعة والتي استعملها الكثير من اسلافنا لحفظ مقتنياتهم المختلفة واظن ان الامر متعلق بالنساء اكثر من الرجال . العنونة من الناحية النحوية متكونة من جملة اسمية قوامها فونيمان مترابطان بالاضافة هما : سماوات + السيسم . وردت كلمة سماوات بصيغة جمع المؤنث السالم معرف بالاضافة الى السيسم وهي خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه , اما السيسم فقد جاءت على صيغة المفرد المعرف ووضعها الاعرابي مضاف اليه مجرور بالكسرة . اما من الناحية السيميوطيقية فأن الانساق العلماتية والدلالية للسيسم كصندوق فمردها عوامل تاريخية ونفسية لأن الصندوق السيسمي يأخذ بعدا لغزيا فيما يؤول اليه اضافة الى البعد المادي الذي يكتنزه . فالشاعرة تباغتنا في انسنة الصندوق اذ تجعل له حياة وزمن له بداية ونهاية , فهو يحمل تاريخ انسان ما , تاريخ تفاصيل حياته , تفاصيل تأثير البيئة عليه , تاريخ رؤيته ورؤاه حيال كل ما يحيط به وامتداد ذلك على خيط طويل من تاريخ اولاده واحفاده . انه تاريخ الرغبات الشخصية , والتطلعات العامة التي يضمها الصندوق بيت دفتيه
صندوق حمل … تقاويم
ضحكاتي …
مخاوف ليلي
قضم اظافري …
كم تمنيتني لابدة فيه …
تبتسم جدتي …
وانا .. اهمسها :
نزهاتي في سماوات السيسم
هذا هو تاريخ السيسم , تاريخ تتعامد فيه الاحزان والضحكات , الخوف والثقة بالنفس , تاريخ يحمل رهاب الاني , انه صورة لتاريخ تملؤة التفاصيل الصغيرة التي تحمل وهج الاشياء وسرها , به وفيه تتحول الاشياء , فالتقاويم التي تعرش عليها ضحكات الطفولة ومخاوف الظلمة اصبحت كهف الروح الآمن وفسحة الانفتاح على عوالم حالمة . ان الصندوق قد استطاع ان يصنع حياة ووجود الاخر بدليل القرينة المتمثلة في السطر الاخير . اذن الصندوق السيسمي لم يعد مجرد خشب وابعاد هنددسية وقفل ومفتاح , انه ألفة من طراز خاص , الفة تتنازع مع هيجان الواقع ومترشحاته في ساعة من ساعات احتدام الذات وهي تجوب مفازات جديدة .
…. ما تغير من شيء
الزهرات البيض تتماوج
في نفنوفها الليلي …. ما تزال
قارورة تمكث فيها بقية ( دهن الورد )
قلائد من قرنفل وهيل
كتلة من بخور جاوي
قداحة جدي وعلبة سكائره الفضية …
مسبحة السندلوس
علبة ماكنتوش كبيرة …
افتحها …
ورقة
… تهاوت مخلفة
… ابتسامة ابي … بسدارته العسكرية
هكذا هي صورة المكان محتشدة بكل التفاصيل الصغيرة , انه هوية الاخر التي تعج بالاشياء الحميمة على الرغم من عزلتها التاريخية وبعدها الزمني , الا ان كل ذلك لم يمنع من تآلفها والفتها مع زمن غير زمنها , فهي لم تتغير على الرغم من تغير الزمان . فاحتفاظ الاشياء بكينونتها الاولى هو عملية توقف للزمن في نقطة معينة , بمعنى تجمده في نقطة رجراجة وهذا هو سر قوته في ما يتعلق بما يمكن ان يبقى بقوة هيمنته المعنوية . لاحظ الاختيار النابه لكلمة نفنوف فهذه الكلمة لها رنين روحي وموسيقي لا تحظى به كل الكلمات البديلة : بدلة او ثوب .انه الالتقاط الذكي للمفردة في سياقها التاريخي والتنغيمي وهذا هو سر الشعر الجيد الذي يستطيع ان يتوالد ويولد وينتصر لفعل الكينونة الانسانية ليست لأنها كيان متحصل بالفطرة لكن بدلالة تأثيرها في الان والمستقبل . انها جوهر الشيء وقدرته على الامتداد الفكري والروحي الذي يجعل من الابعاد والمادة الجامدة السيسم قدرة على تفعيل الذاكراتي وعصف الوعي بأتجاه تكوين امتدادات نفسية لا تقبل القسمة على اثين فيما يخص القيم الفاضلة .
جدتي ….
نكهة … مطبخها
في نبرتها …
من لي بصوتها ….
لأغمس خبزي
الجدة – هنا – ليست مجرد شخصية , او صورة لماض ولدت واشرأبت في الذاكرة على حين غفلة ,انها صورة تمتلك جدارتها في خلق حس وعيوي لحالة انسانية تغلفها الرغبات السابحة في عالم البراءة والنقاء والصدق . ان الفراغ المنقوط انتج مجموعة من التأويلات التي لا حصر لها اذ انها تزودنا بفرص لأستنشاق عبير الاشياء , اضافة الى دفعنا للمشاركة الفاعلة في النص في غضون زمن قصير لأنها متلاحقة بنحو لا يسمح بأمتدادات زمنية طويلة وكأننا امام حقائق لا تستدعي الا برهة قصيرة من الفحص . ان عملية التدوير الحاصلة في النص انفا ترمي الى الصاق كل شيء بما قبله لتشكيل دائرة متكاملة , فالنبرة لا تفارق المطبخ لأنها تمثل البصمة اما الصوت فهو ذلك البعد الفيزياوي الذي يؤثر في النماخ النفسي للأنسان . الصوت هو الحاضنة الكبيرة , والخبز هو القاسم المشترك للألفة التي تغلف الماضي وينبغي ان تمتد الى الحاضر والذي تمثله الجدة بكل حنانها وقيمها . اذن السيسم لم يعد ابعادا هندسية تجمعت لتظهر على هيأة صندوق خشبي بل هو حياة كاملة وسامقة , وقد ابدعت الشاعرة حين هشمت ما للبعد من فعل هندسي بواسطة ادامة زخم الذاكراتي واسباغ صيرورة مستديمة للموجودات خارج كينونتها المعروفة , لهذا تعاملت الشاعرة مع السيسم بنحو لا ينفصل عن السماوات مكانيا ودلاليا من حيث الامتداد والتأثير , فهو , اي السيسم , عالم مكتنز برموز تتخطى آنيتها بيد انها تحتضن عوالم روحية شائكة , وتمتد في ازمنة اخرى بدليل ان السييسم غير موجود الان لكن فعله الذاكراتي والنفسي يجسد انتصاره على الزمان وتمكنه من اجتراح افق خاص به وظهوره حيا في سماوات الحاضر . ولا نجانب الحقيقة بشيء حين نعطي للسيسم بعدا طبقيا حين نفتش في مفرداته من محتويات منتقاة بنحو يحيل الى ما ذهبنا اليه :
على عتبة الدار …
قلائد الحرمل
علقيها
حتى لا تقشر فاكهتك المناجل
ولا تكون ايامك كلها سبت …
لك من الحرمل : مرود المكحلة
مخارز لعيونهم
ان المنجل يشير هنا الى بعد طبقي واضح اذ ان النظرية الماركسية تشير الى ان تحديد عضوية اي شخص في طبقة اقتصادية معينة تقرره النظرة في علاقته بوسائل الانتاج , اما يوم السبت فتشير العادات والتقاليد الى انه يوم منحوس وقد قيل في المثل الشعبي ( سبت برقبة يهودي ) . اذن داخل الصندوق السيسمي ينفرد كل شيء, وفي الوقت نفسه يذوب كل شيء في انسجام لا يعيه الا اولئك الذين كان السيسم مكانا جماليل لأسرار طافحة بكل ما هو حميمي وراق . اذن السيسم في بعده الروحي والنفسي حكاية غير متوقفة بل هي نبض مستديم واسطورة لا يمكن ان تركنلأن فعلها ما زال طريا ومؤثرا في مناحي الحياة كلها . هذه هي العنونة تستحق ان تكون متنا لوحدها . اما المتن الداخلي فقد آثرت الشاعرة ان تتعامل معه بنحو هندسي , بمعنى انها اعطت للشكل اهتماما استثنائيا
عطستُ ….
أمتنعت جدتي عن الذهاب …!
قدتُ انا
حملة
تنقيب
حين عطست جدتي .
نلاحظ – هنا – ان التركيبة الهندسية اخذت شكلا هرميا قمته الجملة الفعلية مشفوعة بفراغ منقوط , ثم جملة فعلية لاحقة هي نتيجة للجملة الاولى لصلتها بالموروث الشعبي. فالارتباط حاصل بنحو عفوي ومسلم به وهذا ما عززته بنية الارتباط بين زمنين مختلفين , فعمر السارد لا يقارن بعمر الجدة , فهما من جيلين مختلفين بيد ان الموروث اكتنف المشهد برمته ولم يقف عنده بل اجتاز زمنه ليكتنف زمن السارد , ولم تكتف الشاعرة بهذا الرسم الهرمي بل حاولت قلبه لتشكل ابعادا جديدة للحالة نفسها
وها انا احفرُ
احفرُ…
احفرُ …
ليستضىء الوطن
من سكان مملكة العظام !!
هنا عملية الحفر عملية معنوية بمعنى ان الحفر حاصل في الزمن ودروب الحياة لأستخراج معدن القيم القادرة على اضاءة عتمة الزمن فيما يخص الوطن . انه الصبر الطويل في الحفر في الزمن للوصول الى لحظة استبصار ,استبصار ما يضيء زمن الوطن بواسطة ايقاف فعل مضاد .
وتشتغل الشاعرة على ما يطلق عليه ( التناظر الايقاعي ) بمعنى تبادل الكلمات لمواقعها وبذلك تتحقق صورة جديدة هي من الالفاظ التي سبقتها مما يؤدي الى تغذية الايقاع الصوتي الذي يحدث نشوة نفسية عند المتلقي
للصبر لعبة
تحبها جدتي
لأنها تحبني
اورثتني
ما تحب …
فالترديد الصوتي قائم على تبادل الكلمات لأمكنتها فنتج تواشج وتوحد في النص
بغصن مكسور
مبحوح
قالت : ثلاثة ايام ..اطرق باب النهروانادي
وليد
نادت وتنادي ..زضربت ثلاثا في عشر
في مائة
..الف
في …
في …
وبوق حنجرتها يستغيث
النهر تخثر
تشقق جلد النهر
ولم …
يبزغ وليد …
لاحظ ان المجانسة حاصلة في اوزان الكلمات ( مكسور و مبحوح ) وهذا الجناس الازدواجي منح الصورة ايقاعا محبذا للنفس وكذلك التضعيف الصوتي المتحقق في الفعلين ( تخثر و تشقق ) مرده التضاد الحاصل بين عمليتي التخثر وعملية التشقق , وبهذا يتساوق الايقاع مع السرعة والبطء الحاصل في عمليتي التخثر والتشقق والتي تشير اليهما صورة اللابزوغ للـ الوليد على الرغم من الاستغاثة . ان سماوات السيسم نقلة نوعية في منجز الشاعرة بلقيس خالد الذي استطاع ان يؤكد شاعريتها المائزة .